قال عمرو بن العاص لمعاوية - رضي اللَّه عنهما -: لقد أعياني أن أعلم: أجبان أنت أم شجاع؟ فقال:
شجاعٌ إذا ما أمكنتني فرصةٌ ... وإلا تكن لي فرصة فجبان
بل ليس بالمحمود أن يتجرد الإنسان من كل خوف؛ فقد يكون الخوف فضيلة، وعدمه رذيلة؛ فالخوف عند الإقدام على أمر مهم تتعلق به مصالح الأمة، أو يحتاج إلى اتخاذ قرار حاسم - فضيلة وأي فضيلة؛ إذ هو يحمل على الروية، والتأني، والتؤدة، حتى يختمر الرأي، وينضج في الذهن؛ فلا خير في الرأي الفطير، ولا الكلام القضيب، والعرب تقول: "الخطأ زاد العَجُول".
كما أنها تمدح من يتريث ويتأنى، ويقلب الأمور ظهراً لبطن، وتقول فيه: "إنه لَحُوَّلٌّ قُلَّبٌ".
ولهذا ما زال الحكماء ينصحون الناس ألا يقدموا على مواقع الخطر إلاَّ أن تكون فائدة الإقدام أكبر من خسارته، قال أبو الطيب المتنبي:
الرأي قبل شجاعة الشجعانِ ... هو أول وهي المحل الثاني
وإذا هما اجتمعا لنفس مِرَّةٍ ... بلغت من العلياء كل مكان
وقال:
وكل شجاعة في المرء تغني ... ولا مثل الشجاعة في الحكيم
وإنما الجبن المذموم، والخوف المرذول هو ما بالغ صاحبه فيه مبالغة تخرجه عن طوره؛ فهذا هو خوف الجبان الرعديد، الذي يُغَلِّب جانب الشر، ويخشى سوء عواقبه.
أما الشجاع فلا يفكر كثيراً في احتمال الشر، ثم إذا وقع لم يَطِرْ قَلْبُه شَعاعاً، بل يصبر، ويتحمله بثبات؛ إن مرض لم يضاعف مرضه بوهمه، وإن نزل به مكروه قابله بجأش رابط فخفف شدته؛ فمن الحكمة والعقل ألا يجمع الإنسان على نفسه بين الألم بتوقع الشر، والألم بحصول الشر؛ فليسعد ما دامت أسباب الحزن بعيدة عنه؛ فإذا حدثت فليقابلها بشجاعة واعتدال، قال أبو علي الشبل:
ودع التوقع للحوادث إنه ... للحي من قبل الممات ممات
وبالجملة فالشجاع ليس بالمتهور الطائش الذي لا يخاف مما ينبغي أن يخاف منه، ولا هو بالجبان الرعديد الذي يَفْرَقُ من ظله، ويخاف مما لا يخاف منه.
ثم إن الشجاعة ليست هي قوة البدن؛ فقد يكون الرجل قوي البدن ضعيف القلب، وإنما هو قوة القلب وثباته.
والمحمود منها ما كان بعلم ومعرفة، دون التهور الذي لا يفكر صاحبه، ولا يميز بين المحمود والمذموم.
ولهذا كان القوي الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب حتى يفعل ما يصلح دون ما لا يصلح.
فأما المغلوب حين غضبه فليس بشجاع ولا شديد -كما يقول ابن تيمية رحمه الله-.
وهكذا يتبين لنا من سيرة موسى - عليه السلام - أن الخوف لا يذم ولا يمدح لذاته، وأن مجرد الشعور الفطري بالخوف لا ينافي الشجاعة.
وأن الإنسان ضعيف بطبعه: فمهما بلغ من القوة، والشجاعة، والتمكين - يبقى ضعيفاً لا يملك من شأن حول ولا طول؛ فهو مربوب مقهور لا يخرج من علم الله، وإحاطته، ولا يستغني عن لطفه وإعانته.
كما أن تلك السيرة العظيمة تحمل في طياتها لفتاتٍ بارعة في التعامل مع الخوف، وأسباب اكتساب الشجاعة؛ فمن ذلك أن الشجاعة - وإن كان الإنسان مفطوراً عليها - تزيد بالدَّرَبة، والمِران، والتعود؛ فإن موسى - عليه السلام - زادت تلك الخصلة عنده بسبب ملاقاة الشدائد، والخطوب؛ فاجتمع عنده الخلق الجبلي بالخلق الاكتسابي.
ومن أسباب ذلك توطين النفس على وقوع المكروه، والحذر من تضخيم النتائج؛ فإن موسى كان يتوقع أن يفرط عليه فرعون، أو أن يطغى، وكان يتوقع تكذيبه إياه، إلى غير ذلك مما وطن موسى نفسه عليه؛ فكان ذلك سبباً في الاستعداد له، ومقابلة ذلك بكل ثبات وشجاعة.
ومما أخذ به موسى نفسه: أنه نظر في العواقب؛ فكان ذلك دافعاً له أن يقدم؛ لأن عاقبة مجابهة فرعون سيسفر عنها بيان حق، وأن مصير فرعون إلى خسار وبوار؛ لأنه مفسد، والله لا يصلح عمل المفسدين.
ومن ذلك أن موسى - عليه السلام - عرف قدر نفسه، فهو لا يملك عدة ولا عتاداً، وعرف قوة خصمه الذي بلغ من القوة ما بلغ، فخشي موسى من قوة فرعون، وأدرك أن قوته الظاهرة القليلة لا يمكن أن تقف أمام قوة فرعون وجبروته؛ فلما طمأنه ربه - جلا وعلا - بقوله: [لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى] طه:46، أقدم موسى غير هياب ولا وجل، فصار قلبه مطوياً على سراج من التوكل على من بيده ملكوت كل شيء؛ فكانت عاقبة أمره رشداً وفلاحاً.
¥