الطائفة الثانية: علماء أصول الدين الذين لهم باع طويل وعناية خاصة بمباحث الألفاظ والمباحث التي اعتبرت مشتركة بين الكتاب والسنة والنبوية، وآثارها في الأحكام الشرعية، وكذلك علماء علوم القرآن في هذه الجوانب.
الطائفة الثالثة: علماء الفلسفة، فالكتاب على وجازته قد اشتمل على جملة كبيرة من القضايا المهمة التي لن يكون سهلاً فهمها أو معرفة أهمية ما وصل إليه المؤلف الفاضل فيها على غير هؤلاء. فالمؤلف يبدو على اطلاع واسع على أسرار البلاغة العربية، يوازيه اطلاع واسع على تطور العلوم اللغوية والألسنية، ما ولده هذا التطور من علوم "كلسيميوطيقا" التي تدرس أنظمة العلامات التي يبتدعها الإنسان ليدرك بها واقعه ونفسه.
الملاحظة الرابعة: أثبت الدكتور منير قدرة فائقة على التعامل مع المصطلحات ونحتها واشتقاقها، وقد وفق في كثير من الأحيان خاصة حين كان يرجع القارئ إلى معنى اللفظ الذي استحدثه أو نقله بلفظه الأجنبي إلى العربية، ولكنه في أحيان أخرى تجاوز ذلك، فترك القارئ يغوص ويجول في معان متعددة قد يؤول المعنى إليها، هذا إذا كان يتقن اللغات الأجنبية، فما بالك بالذي لا يتقنها، فانظر مثلاً إلى كلمات مثل: أركيولوجي، المحايثة، الإيروس، اللوجس، ديونيزوس؛ إنها لم تنل عناية الباحث ليقدم لنا على الأقل تعريفاً بسيطاً لها.
الملاحظة الخامسة: يلاحظ تميز الكتاب وفرادته من خلال إثارته للعديد من الموضوعات بطريقة منهجية جديدة، لم تنل حظها من الدرس والنظر والتحليل، من مثل "النص القرآني والعلم الإنسان" الذي قد يندرج تحت مفهوم "عالمية الخطاب القرآني" وما جاء في فصل "التناصّ" الأفكار المحورية وظاهرة التوازي، والنص في الحياة: مفهوم الاستخلاف ووظيفة الاختلاف، وغيره كثير.
الملاحظة السادسة: لعله كان من المفيد للباحث أن يسوق لنا بعض الأطروحات السابقة التي تناولت بالدرس والتحليل النص القرآني مبيناً وجهة نظرها تجاه النص القرآني من جهة، وموضحاً إسهاماته الشخصية في هذا الحقل المبتدع من جهة ثانية.
الملاحظة السابعة: ثمة قضايا تطرق إليها المؤلف، وهي ما تزال بحاجة إلى تأصيل وتعميق، أذكر منها على سبيل المثال القضايا الآتية: النص، الاختلاف، والدلالة، كما أن موضوع "التخلص الصوتي" يحتاج إلى دراسة أشمل في ظلال القرآن الكريم كله، وليس فقط من خلال الآيات القرآنية التي تناولها، وعلى العموم تبقى كثير من الموضوعات بحاجة إلى ما ذكرنا خاصة بعد أن مهد الدكتور منير إليها الطريق.
الملاحظة الثامنة: قصور بعض المعالجات عن الوصول إلى أهدافها. وأذكر منها على سبيل المثال: أن الباحث عندما تناول بوطيقيا الغياب، من خلال النص القرآني، غلب عليه الاستشهاد بالكتب السماوية الأخرى، والكتابات الفلسفية، أما القرآن الكريم فقد كادت آياته تغيب عن هذه المعالجة. كما أنه حين عالج دلالة الحب في الفصل الثاني عشر، عالجها دون الرجوع إلى النص القرآني، على الرغم من غزارة ما جاء عنها في القرآن. وفي دلالة الموت تظهر غلبة التفسير المادي، فهو يقول في معرض حديثه عن الزمن: "فالإنسان هو الحضور الذي انبثق في الزمن من لا شيء"، وإجمالاً يكاد القارئ يشعر بإقحام هذا الفصل والذي بعده في نص الكتاب. وكذلك وجود بعض الأخطاء الطباعية التي لا يكاد يخلو منها كتاب، ولكن أهم ما في الأمر هو الخلط بين الياء والألف المقصورة في أواخر الكلمات في كثير من المواضع.
الملاحظة التاسعة: مواضيع بحثية مقترحة
لما كان الكتاب قد شق طريقاً منهجياً جديداً، يجمع بين مجالات الدراسة القرآنية، والمعطيات اللسانية، والمفاهيم الفلسفية، فهذا إسهام متميز وخطوة جريئة وأصالة منهجية فريدة، ستفتح المجال واسعاً لمزيد من الدراسات والبحوث، يمكن أن أقسمها ضمن محاور ثلاثة:
المحور الأول: حول الخطاب والنص القرآنيين وإمكان قيام دراسات مسحية تقوم بدراسة أجزاء الكتاب العظيم دراسة كاملة، وأن تختص كل أطروحة علمية بدراسة جزء من القرآن الكريم أو سورة أو موضوع، وتقوم الدراسات وفق منهج الدكتور منير وذلك بمقاربة الجزء أو السورة مقاربة ذات أبعاد متعددة تبرز مواطن تقاطع النص وتخارجه وامتداداته انطلاقاً من هذه الرؤية التي تعتمد على اللغة والعلم والفلسفة. وبعد الانتهاء من هذا المسح المنهجي يقوم فريق أو شخص آخر بمحاولة استنباط "نظرية الخطاب القرآني" من خلال نتائج الدراسات المسحية السابقة واستنباطاتها.
المحور الثاني: يقوم هذا المحور على دراسة الخطاب النبوي وفق الأسس والمعايير السابقة، وبيان تجلياته وتقاطعاته ومميزاته وأبعاده، لتقوم دراسة أخرى بعد ذلك بمقارنة هذا الخطاب بالخطاب القرآني لبيان مدى تأثير الثاني في الأول.
المحور الثالث: إجراء الأمر ذاته على التراث الإسلامي، وفق أسس منهجية معينة، وأن تنتظم وفق إطار زمني أو معرفي، حسب الحاجة والوقت، لذات الأهداف السابقة.
وبعد فإن هذه الدراسات جميعاً تبقى محاولة للوصول إلى "نظرية الخطاب العالمي للنص القرآني" التي جمعت بين النص القرآني المراد تبليغه للناس، ومن بعده الخطاب النبوي، ومن ثَمّ خطاب التراث الإسلامي انتهاءً إلى الخطاب الإسلامي العالمي الحديث الذي نأمل أن يكون.