إن هذه العوامل الخمسة تعمل على تطوير حركة النص داخل نفسه ومع العوالم خارجه؛ كما تعمل على حل أي تعارض إلى معنى كلي شامل واحد وفريد، فالنص كما بيّن الباحث يمنح العالم تغيير وجوده، بينما يمنحه العالم زمنية أفعاله، وكما يمنح النص العالم الغاية، فإن العالم يمنح النص التأثير، والنص فضلاً عن ذلك يقدم للتاريخ فرصته الكبرى في أن يتحرر من ذاته اللحظية، أما العالم فهو يحقق للنص ديناميته الفعالة.
ويحاول الدكتور منير في الفصل قبل الأخير أن يربط بين التجربة الذاتية والنص من حيث إن للتجربة الذاتية دلالات مهمة في الخبرة الإنسانية، وقد أوضح المؤلف التجربة الذاتية في نفاذها إلى حكمة القانون الداخلي للأشياء تعتمد على أمرين اثنين هما:
1 - عمق الوعي الذي يؤهله للوصول إلى جوهر الواقعية.
2 - دربة الربط بين الأشياء التي تتيح له المقارنة بين الوقائع.
ولعله من المفيد أن نحاول إيجاد مبررات للمؤلف لعقد هذا الفصل من حيث، ما علاقة التجربة الذاتية في النص بشكل عام والقرآني على وجه الخصوص، أقول من خلال فهمي لحديث مؤلفنا يتبين أن قيمة التجربة الذاتية في فهم النص القرآني تكمن في أنها:
1 - تساعدنا على فهم قوتنا وضعفنا معاً.
2 - تساعدنا في التعرف على النقص الموجود فينا وإمكانات مجاوزته.
3 - تَفَتُّحِنا على العالم والآخرين بقدر تفتُّحنا على داخلنا.
4 - تضع الوجود كله أمانا بوصفه موضوعاً لاكتشاف الرغبة والطموح الشخصيين.
5 - تعمل على مراودة الأفكار للمستتر وتدفع بالوعي حثيثاُ لقراءة سره وفض شفرته الأصلية.
وبعد ذلك يصل الباحث إلى معالجة بعض المعالم البارزة من التجارب الذاتية وأوضاعها وظروفها في الخبرة الإنسانية، فقد تناول دلالات الحب والموت، والأمل، والإرادة في الخبرة الإنسانية مقترباً من الرؤية القرآنية أحياناً، ومتجهاً نحو التفسير المادي الاشتراكي لها أحياناً أخرى.
ويحاول الدكتور منير في الفصل الأخير اكتناه بويطيقا الغياب من خلال منعطفات التصوف في النص القرآني، على الرغم من منعطفاته المتعددة نحو النصوص الدنيوية الأخرى، فقد أشار إلى خصوصية الفكر الصوفي الذي عدّه أول من وضع في الفكر الإسلامي ثنائية الشريعة والحقيقة أو ما تسمى بالظاهر والباطن.
وأهم ما في هذا الفصل بعض الإضاءات حول مفهوم الحضور والغياب في الفكر الصوفي والقرآني والمادي.
* تقويم عام لمنهج الكتاب وإطاره المعرفي:
بعد عرض أفكار الكتاب ومحتوياته يمكن لنا تسجيل الملاحظات الآتية:
الملاحظة الأولى: يمثل هذا الكتاب واحداً من الكتب المتميزة التي عالجت النص القرآني وفق رؤية معرفية جديدة بأدوات منهجية مستحدثة، فهو يستند إلى حركة الفهم والتحليل والتأويل التي تؤول في نهاية المطاف إلى نسيج معرفي؛ يحاول التكييف بين استردافات المنهج وخصوصية الثقافية من جهة، وبين حداثة القراءة وتراثية المقروء من جهة أخرى.
الملاحظة الثانية: يتمتع الكتاب بعنوان ظريف جميل قشيب، يتوهم قارئه بأنه سيكون إمّا نظرية عامة أو شبهها على أقل تقدير لدراسة النص القرآني، وإن كان عملياً حقق بعض ملامحها، إلا أنها بقيت متناثرة تحتاج لجامع يلم شملها. ففصول الكتاب غير محكمة السبك والربط، فبسهولة ويسر يمكن لنا أن نضع فصلاً مكان آخر، أو نقدم فصلاً ونؤخر آخر، وإذا كان هذا الملحظ لا يحط من قيمة الكتاب فإنه كان من الأولى تسمية الكتاب دراسات في الخطاب/ النص القرآني، خاصة أنه من أهدف الكتاب صوغ نظرية عامة متكاملة للنص القرآني.
الملاحظة الثالثة: أؤكد ما ذهب إليه الدكتور طه جابر العلواني في تصديره للكتاب من أن هذا الكتاب من الصعب أن يستفيد منه القارئ العادي الذي يرغب في قراءة كتب تتحدث عن فضائل القرآن المجيد، والثواب العميم الذي أعده الله تعالى للذين يقرؤونه، فهذا الكتاب لا يقدم لهذا القارئ كثيراً في هذا الصدد.
كذلك من الصعب على طلاب "علوم القرآن" الموروثة أو الباحثين في هذا الجانب من المعارف المتعلقة بكتاب الله تعالى أن يستفيدوا منه كثيراً! وإن كان فيه إلمام ببعض هذه العلوم. ولعل الذين يستطيعون الاستفادة من هذا الكتاب ثلاث طوائف من العلماء والمتخصصين:
الطائفة الأولى: علماء البلاغة واللغويات والألسنيات والمعنيون بفقه اللغة وفلسفتها.
¥