وقد تحدَّث الأصوليون عن معنى التأويل ومجاله وشروطه، وأنواعه، وأفاضوا. ولا مجال في هذا المقام للخوض في هذا الميدان الرحب7، إنما نكتفي ببعض الإشارات والتنبيهات والأمثلة النافعة في بحثنا هذا.
وللظاهرية هنا موقف من موضوع التأويل، فهم يرفضون التأويل إذا لم يدلَّ عليه نص من كتاب، أو سُنَّة أو إجماع، تأسيساً على مذهبهم في الأخذ بظواهر النصوص، فهي عندهم وافية بكل شيء، كما قال مؤسس المذهب داود بن علي (توفي: 270ه/884م)، وأكده أبو محمد ابن حزم (توفي: 456ه/1073م) الذي أحيا المذهب بعد موات.
وفي مقابل الظاهرية الذين يمثلون جانب التفريط -بل الجمود- في التأويل، نجد طوائف أخرى تمثل جانب الإفراط، بل التسيُّب في التأويل.
ومما لا شك فيه أن الأصل هو حمل الكلام على معناه الظاهر، إذ هو ما تدل عليه اللغة بأصل وضعها، وما يُفهم من اللفظ لأول وهلة. فلا يجوز العدول عن هذا الظاهر إلى غيره إلا لدليل يصرف عن ذلك. وهذا ما أشير إليه في تعريف التأويل.
فالأصل في الكلام الحقيقة، ولا يُعدَل عنها إلى المجاز إلا لقرينة ودليل.
والأصل بقاء العام على عمومه، حتى يظهر ما يخصصه. وبقاء المطلق على إطلاقه، حتى يرد ما يقيده.
والأصل بقاء الأخبار -فيما يتعلق بالعقائد والغيبيات- على ظاهر معناها حتى يأتي ما ينقلها عنه.
وكذلك الأوامر والنواهي في الأحكام والعمليات، هي على ظواهرها حتى يجيء ما يصرفها عنها.
* مجال التأويل:
ومن ثمَّ نجد أن التأويل يمكن أن يدخل في الفقه والفروع، ولا خلاف في ذلك، كما قال الشوكاني.
ويمكن أن يدخل في العقائد وأصول الدين وصفات الباري عزَّ وجل، وفي ذلك اتجاهات أو مذاهب ثلاثة، ذكر الإمام الشوكاني في إرشاد الفحول خلاصة وافية لها، نشير إليها هنا:
الأول: أن لا يدخل التأويل فيها: بل تجري على ظاهرها ولا يؤول شيء منها، وهذا قول المشبهة.
الثاني: أن لها تأويلاً، ولكنا نمسك عنه، مع تنزيه اعتقادنا عن التشبيه والتعطيل، لقوله تعالى: ?وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ? (آل عمران: 7)؛ قال ابن برهان: وهذا قول السلف، قال الشوكاني: وكفى بالسلف الصالح قدوة لمن أراد الاقتداء، وأسوة لمن أحب التأسي.
الثالث: أنها مؤوَّلة.
قال ابن برهان: والأول من هذه المذاهب باطل، والآخران منقولان عن الصحابة، ونقل المذهب الثالث عن علي وابن مسعود وابن عباس وأم سلمة.
ونقل الشوكاني عن إمام الحرمين (توفي: 478ه/1085م)، والغزالي (توفي: 505ه/1112م)، والرَّازي (توفي: 606ه/1209م)، ما يفيد عودتهم إلى مذهب السلف ثم قال: "وهؤلاء الثلاثة هم الذين وسَّعوا دائرة التأويل، وطوَّلوا ذيوله، قد رجعوا آخراً إلى مذهب السلف كما عرفت، فلله الحمد كما هو أهل له".
وحكى الزركشي (توفي: 794ه/1392م) عن ابن دقيق العيد (توفي: 702ه/1303م) أنه قال: "وتقول في الألفاظ المشكلة: إنها صحة وصدق، وعلى الوجه الذي أراده الله، ومن أوَّل شيئاً منها فإن كان تأويله قريباً على ما يقتضيه لسان العرب، وتفهمه في مخاطباتها، لم ننكر عليه ولم نبدِّعه. وإن كان تأويله بعيداً توقفنا عنه واستبعدناه، ورجعنا إلى القاعدة في الإيمان بمعناه مع التنزيه".
وقد تقدمه إلى مثل هذا ابن عبد السلام (توفي: 660ه/1262م).
قال الشوكاني: والكلام في هذا يطول، لما فيه من كثرة النقول، عن الأئمة الفحول.8
* لجوء علماء المسلمين كافة إلى التأويل:
ولا توجد مدرسة من المدارس الإسلامية -في الكلام أو الفقه أو الأثر أو التصوف- إلا لجأت إلى التأويل، وإن تفاوتت في ذلك تفاوتاً كثيراً، منها من وسَّع، ومنها من ضيق، ومنها من قرَّب في تأويله، ومنها من بعَّد، حتى خرج عن العقل والشرع.
والمهمّ أن التأويل لا بد منه، فقد يوجبه العقل، وقد يوجبه الشرع، وقد توجبه اللغة، ومن رفض ذلك شرد عن الصواب، سقط في هوة الخطأ، كما فعل الظاهرية.
¥