وأكثر ما يلجأ العلماء للتأويل، لتنسجم النصوص بعضها مع بعض، لا يضرب بعضها بعضاً، ومن هنا أوَّلوا قوله عليه الصلاة والسلام: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض"،9 وقلوه: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"،10 بأن المراد بالكفر هنا: الكفر الأصغر، كفر النعمة، أو كفر المعصية، لا الكفر الأكبر المخرج من الملة، وإنما سمِّيَ كفراً، لما فيه من التشبه بكفار الجاهلية الذين كانوا يقاتل بعضهم بعضاً، ويضرب بعضهم وجوه بعض.
وسبب هذا التأويل: أنَّ القرآن أثبت الإيمان للمقتتلين من المسلمين، وأبقى عليهم وصف الأخوة الإيمانية وأوجب الصلح بينهم فقال: ?وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ... ? (الحجرات: 9) ... إلى أن قال: ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ? (الحجرات:10).
ومثل ذلك قوله: ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون ... َ? (الأنفال:2 - 4)، وقوله: ?قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ? (المؤمنون:1 - 3).
وقوله تعالى: ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ? (الحجرات:15).
ونحو ذلك قوله ?: "لا يزني الزَّاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن".11
وقوله: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن ... من لا يأمَنُ جاره بوائقه"،13 فقد أوَّلها العلماء بأن الإيمان المنفي هنا: هو الإيمان الكامل، لا أصل الإيمان. كما يقال: لا مال إلا ما نَفَع، ولا علم إلا ما أدَّى إلى العمل، والمراد نفي الكمال.
وإنما أوَّل العلماء ذلك، لأن نمت نصوصاً أخرى وافرة، دلت على إيمان أهل المعصية، وأن مرتكب المعصية -ولو كانت كبيرة- لم يخرج من دائرة الإيمان.
وذلك مثل النصوص التي بيَّنت أن مَنْ مات على "لا إله إلا الله"14 دخل الجنة.
وقوله ? لمن لعن الذي شرب الخمر من الصحابة وضُرب أكثر من مرة: "لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله"،15 أو"لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم"،16 فدلَّ على أن أخوته باقية رغم معصيته، وأن حب الله ورسوله مستقر في قلبه، وإن زلَّت قدمه إلى الوقوع في أم الخبائث.
وكذلك لو كان بالزنى والشرب والسرقة يكفر ويخرج من الإيمان، لكانت عقوبته عقوبة الردَّة، وهي عقوبة واحدة، فلا معنى لأن يُعاقب الزاني والشارب بالجَلْدِ، والسارق بالقطع.
* حتى ابن حزم لجأ إلى التأويل:
والإمام أبو محمد ابن حزم أشد الناس تمسكاً بالظواهر، وأبعدهم عن التأويل، تبعاً للمدرسة التي آمن بها، وعاش حياته محامياً عنها، وهي المدرسة الظاهرية، ومع هذا وجدناه يلوذ بالتأويل في بعض الأحيان، حين لا يجد منه بُداً.
فقد ذكر في المحلَّى حديث" "سيحان وجيحان، والنيل والفرات، كل من أنهار الجنة"، وحديث: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة"، وهما صحيحان ثابتان.
ثم قال ابن حزم: "هذان الحديثان ليس على ما يظنه أهل الجهل من أن الروضة مقتطعة من الجنة! وأن هذه الأنهار مهبطة من الجنة! هذا باطل وكذب"، ثم ذكر أن معنى كون الروضة من الجنة إنما هو لفضلها، وأن الصلاة فيها تؤدي إلى الجنة، وأن تلك الأنهار لبركتها أضيفت إلى الجنة، كما تقول في اليوم الطيب: هذا من أيام الجنة، وكن قيل في الضأن: "إنها من دواب الجنة". وكما قال عليه السلام: "الجنة تحت ظلال السيوف". ومثل ذلك حديث: "الحجر الأسود من الجنة".
ثم حمل ابن حزم بشدة على مَن حملوا هذه الأخبار على ظاهرها، قائلاً: قد صحَّ البرهان من القرآن، ومن ضرورة الحس، على أنها ليست على ظاهرها.17
وهكذا وصل التأويل إلى المدرسة الظاهرية، التي تتمسك بظواهر النصوص إلى حد الجمود في بعض الأحيان. ولكنها أوّلت حين لم تجد من التأويل بُدّاً.
* المدرسة الحنبلية والتأويل:
¥