تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

منهم من يقرِّها ويعدها رموزاً وإشارات، وليست تفسيراً. بل ربما يراها بعضهم من كمال الإيمان، وتمام العرفان. ومنهم من يرى أن الشريعة في غِنى عنها، وأن السَّلف من الصحابة والتابعين لم يصح عنهم شيء من هذا، وكل خير في ابتاع مَن سَلَف، وكل شر في ابتداع مَن خَلَف.

قال الإمام تقي الدين ابن الصلاح (توفي: 643ه/1245م) في "فتاويه":

وجدتُ عن الإمام أبي الحسن الواحدي المفسِّر (توفي: 468ه/1076م) أنّه قال: صنف أبو عبد الرحمن السُّلمِِي (توفي: 412ه/1021م) حقائق التفسير،29 فإن كان قد اعتقد ذلك تفسيراً فقد كفر".

قال ابن الصلاح: "وأنا أقول: الظنّ بمن يوثَق به منهم، إذا قال شيئاً من ذلك أنّه لم يذكره تفسيراً، ولا ذهب به مذهبَ الشرح للكلمة، فإنه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنية، وإنما ذلك منهم لنظير ما ورد به القرآن: فإنَّ النظير يُذكر بالنظير؛ ومع ذلك فيا ليتهم لم يتساهلوا بمثل ذلك لما فيه من الإبهام والإلباس"!

وقال النسفيّ (توفي:710ه/1310م) في عقائده: النّصوص على ظاهرها، والعدول عنها إلى معان يدّعيها أهلُ الباطن إلحاد.

قال التفتازانيّ في شرحه: سُمِّيت الملاحدة باطنيّة لادّعائهم أن النصوص ليست على ظاهرها، بل لها معانٍ باطنية لا يعرفها إلى المعلم؛ وقصدهم بذلك نفي الشريعة بالكليّة.

قال: وأمّا ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها، ومع ذلك فيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك، يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة، فهو من كمال الإيمان، ومحض العرفان".30

ولكن بعض الصوفية بالغوا، حتى قال بعضهم: لكل آية ستون ألف فهم! واعتمدوا على بعض الأحاديث والآثار الواردة في ذلك، مثل ما ورد مرفوعاً: "إن للقرآن ظهراً وبطناً، وحداً ومطلعاً".

وقال ابن عباس: "إن القرآن ذو شجون وفنون، وظهور وبطون، لا تنقضي عجائبه، ولا تبلغ غايته".

ولكن هذا -إن صح- لا يدل على ما ادعاه أولئك الغلاة، فقد قال ابن عباس في الأثر نفسه: "فظهره التلاوة، وبطنه التأويل".

وهذا يعني الغوص وتعميق النظر لاستخراج جواهر القرآن، فهو لا تنقضي عجائبه حقاً. كما لمسنا ذلك في عصرنا، حيث يجد كل متخصص إذا تعمق فيه ما لا يجد في غيره من الكنوز.

ولذا تحفَّظ الإمام أبو بكر بن العربي (توفي: 638ه/1241م) في كتابه العواصم من القواصم على تلك التأويلات الصوفية التي سماها "قدحات الخواطر، ولمحات النواظر". فقد تحدَّث في إحدى "القواصم" عن طائفة من هؤلاء الذين سماهم أصحاب الإشارات جاؤوا بألفاظ الشريعة من بابها، وأقروها على نصابها، لكنهم زعموا أن وراءها معاني غامضة خفية، وقعت الإشارة إليها من هذه الألفاظ. وبيَّن خطأهم في إحدى "العواصم".

فقد ذكر تأويلهم لقوله تعالى: ?وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا? (البقرة: 114)، وقولهم: "إن الله نبَّه بذلك على أنه لا أظلم ممن خرَّب أركان الإيمان بالشبهات. وهي قلوب المؤمنين، وعمَرها بالأماني، وشحنها بمحبة الدنيا، وفرّغها من محبة الله تعالى."

ورد ابن العربي ذلك بأن المراد بالمساجد في الآية: ذوات المساحات المتخذة للصلوات، وقلوب المؤمنين معروف حالها، مبيِّنة بأكثر من هذا البيان في مواضعها، ولا يُحتاج إلى ذلك فيها، ولا يدل اللفظ عليها.

وكذلك قولهم في الآية: ?فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ? (طه: 12)، إشارة إلى خلع الدنيا والآخرة من قلبه.

وفي الآية: ?وَأَلْقِ عَصَاكَ? (النمل:10)، أي: لا يكون لك معتمد ومستند غيري.

قال ابن العربي: "وهذه إشارة بعيدة، أو قُل معدومة، فإنها إلى غير مُشار. وما أمِرَ موسى بطرح النعل إلا لأحد وجهين: إما لأنهما كانا من جلد غير مذكّى، أو لئلا يطأ الأرض المقدسة بنعل تكرمة لها، كما لا يدخل الكعبة بها ...

وأما إلقاء العصا، فقد بيّن الله تعالى الفائدة فيه. ومن يعتمد على العصا من طول القيام، أيقال له: إنه على غير الله يعتمد؟ هذه خرافة! فدع عنك نهباً صيح في حجراته، وعوِّل على كتاب الله ومعلوماته".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير