بينما رجل آخر يترك المرآة، ويجابه الشمس مباشرة، ويشاهد هيبتها ويدرك عظمتها، ثم يصعد على جبل عال جداً وينظر الى شعشعة سلطانها الواسع المهيب ويقابلها بالذات دون حجاب ثم يرجع ويفتح من بيته الصغير ومن مشتله المسقف الخاص نوافذ واسعة نحو الشمس، واجداً سبلاً الى الشمس التي هي في أعالي السماء ثم يجري حواراً مع الضياء الدائم للشمس الحقيقية. فيناجي الشمس بلسان حاله ويحاورها بهذه المحاورة المكللة بالشكر والامتنان فيقول:
(إيه يا شمس! يا من تربعت على عرش جمال العالم! يا لطيفة السماء وزهراءها! يا من أضفيت على الارض بهجة ونوراً، ومنحت الازهار ابتسامة وسروراً، فلقد منحت الدفء والنور معاً لبيتي ومشتلي الصغير كما وهبت للعالم أجمع الدفء والنور).
بينما صاحب المرآة السابق لا يستطيع أن يناجي الشمس ويحاورها بهذا الاسلوب، اذ إن آثار ضوء الشمس محددة بحدود المرآة وقيودها، وهي محصورة بحسب قابلية تلك المرآة واستيعابها للضوء.
وبعد .. فانظر من خلال منظار هذين المثالين الى القرآن الكريم لتشاهد اعجازه، وتدرك قدسيته وسموه ..
أجل ان القرآن الكريم يقول:
] ولو أنّ ما في الارضِ مِن شجرةٍ أقلامٌ والبحُر يمدّه من بعدهِ سبعةُ أبحرٍ ما نفدتْ كلمات الله، ان الله عزيز حكيم [.
وهكذا فان منح القرآن الكريم اعلى مقام من بين الكلمات جميعاً، تلك الكلمات التي لا تحدها حدود، مردّه أن القرآن قد نزل من الاسم الاعظم ومن أعظم مرتبة من مراتب كل اسم من الاسماء الحسنى،
فهو كلام الله، بوصفه رب العالمين،
وهو أمره بوصفه إله الموجودات،
وهو خطابُه بوصفه خالق السموات والارض،
وهو مكالمةٌ سامية بصفة الربوبية المطلقة،
وهو خطابُه الازلي باسم السلطنة الإلهية العظمى ..
وهو سجلُ الالتفات والتكريم الرحماني نابع من رحمته الواسعة المحيطة بكل شئ ..
وهو مجموعة رسائل ربانية تبين عظمة الالوهية، اذ في بدايات بعضها رموز وشفرات.
وهو الكتاب المقدس الذي ينثر الحكمة.
ولأجل هذه الاسرار اُطلق على القرآن الكريم ما هو أهله ولائق به اسم (كلام الله).
أما سائر الكلمات الإلهية: فان قسماً منها كلام نابع باعتبار خاص، وبعنوان جزئي، وبتجل جزئي لاسم خصوصي، وبربوبية خاصة، وسلطان خاص، ورحمة خصوصية. فدرجات هذه الكلمات مختلفة متفاوتة من حيث الخاص والكلي،
فأكثر الإلهامات من هذا القسم
إلاّ أن درجاتها متفاوتة جداً.
فمثلاً: ان ابسطها واكثرها جزئية هي إلهام الحيوانات، ثم إلهام عوام الناس، ثم إلهام عوام الملائكة، ثم إلهام الاولياء، ثم إلهام كبار الملائكة.
ومن هذا السر نرى ان ولياً يقول:
((حدّثنى قلبي عن ربي))
أي: بهاتف قلبه .. ومن دون وساطة مَلَك، فهو لا يقول: حدّثني رب العالمين. أو نراه يقول: ان قلبي عرشٌ ومرآة عاكسة لتجليات ربي. ولا يقول: عرش رب العالمين؛ لأنه يمكن ان ينال حظاً من الخطاب الرباني وفق استعداداته وحسب درجة قابلياته
وبنسبة رفع ما يقارب سبعين الف حجاب.
نعم! انه بمقدار علو كلام السلطان الصادر من حيث السلطنة وسموه على مكالمته الجزئية مع أحد رعاياه من العوام، وبمقدار ما يفوق الاستفادة من فيض تجلي الضوء من الشمس التي هي في السماء على استفادة فيضها من المرآة، يمكن فهم سمو القرآن الكريم على جميع الكلام الإلهي والكتب السماوية.
فالكتب المقدسة والصحف السماوية تأتي بالدرجة الثانية بعد القرآن الكريم في درجة العلو والسمو. كل له درجته وتفوقه، كل له حظه من ذلك السر للتفوق، فلو اجتمع جميع الكلام الطيب الجميل للانس والجن - الذي لم يترشح عن القرآن الكريم - فانه لا يمكن أن يكون نظيراً قط للقرآن الكريم ولا يمكن أن يدنو الى أن يكون مثله.
واذا كنت تريد أن تفهم شيئاً من أن القرآن الكريم قد نزل من الاسم الاعظم ومن المرتبة العظمى لكل اسم من الاسماء الحسنى فتدبّر في
(آية الكرسي)
وكذا الآيات الكريمة التالية وتأمل في معانيها الشاملة العامة السامية:
] وعندَه مفاتِحُ الغَيب [
] قل اللّهم مالكَ الملك [
] يُغشي الليلَ النهار يطلُبُه حثيثاً والشمسَ والقمرَ والنجومَ مسخراتٍ بأمره [
] يا أرض ابلعي ماءك ويا سماءُ أقلعي [
] تسبح له السمواتُ السبعُ والارضُ ومَن فيهن [
] ما خَلْقُكُم ولا بَعثُكُم إلاّ كَنفسٍ واحدة [
] إنّا عرضنا الأمانةَ على السمواتِ والارض والجبال [
] يومَ نطوي السماءَ كطيّ السّجلِ للكتب [
] وما قدروا الله حقّ قدرِه والارضُ جميعاً قبضتُه يومَ القيامة [
] لو أنزلنا هذا القرآن على جبلٍ لرأيته .. [
وأمثالها من الآيات الجليلة،
ثم دقق النظر في السور المبتدئة بـ] الحمد لله [و] تسبح .. [
. لترى شعاع هذا السر العظيم
ثم أنظر الى السور المستهلة بـ] الم [و] ألر [، و] حم [لتفهم أهمية القرآن لدى رب العالمين.
واذا فهمت السر اللطيف لهذا الاساس الرابع،
تستطيع أن تفهم: السر في أن أكثر الوحي النازل الى الانبياء انما هو بوساطة ملك، أما الالهام فبلا وساطة.
وتفهم السر في أن أعظم ولي من الاولياء لا يبلغ أي نبي كان من الانبياء ..
وتفهم السر الكامن في عظمة القرآن وعزته القدسية وعلو اعجازه ..
وتفهم سر لزوم المعراج وحكمة ضرورته، أي تفهم السر في رحلته e الى السموات العلا والى سدرة المنتهى حتى كان قاب قوسين أو أدنى ومن ثم مناجاته معه سبحانه، مع أنه جل جلاله] أقرب اليه من حبل الوريد [ثم عودته بطرف العين الى مكانه.
أجل! ان شق القمر كما أنه معجزة لاثبات الرسالة، أظهرت نبوته الى الجن والانس ...
كذلك المعراج هو معجزة عبوديته e أظهرت محبوبيته الى الارواح والملائكة.
اللّهم صل وسلم عليه وعلى آله، كما يليق برحمتك وبحرمته
آمين