النموذج الخامس: وهو مأخوذ من مقدمة الطبري في جامع البيان "باب القول في الوجوه التي من قبلها يتوصل إلى معرفة تأويل القرآن [14] فبعد أن بين أن مما أنزل الله من القرآن… ما لا يوصل إلى علم تأويله إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إن منه ما لا يعلم تأويله إلا الله الواحد القهار، وذلك ما فيه من الخبر عن آجال حادثة، وأوقات آتية، كوقت قيام الساعة والنفخ في الصور، ونزول عيسى… [15] فإن تلك لا يعلم أحد حدودها ولا يعرف أحد تأويلها إلا الخبر بأشراطها. ومحل القول في النص أمران، مع التقدير الكبير لشيخ المفسرين.
الأول: إذا كان التأويل عنده بمعنى التفسير، فإن المتلقي للخطاب يعلم منه أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن النفخ في الصور واقع لا محالة، وأن نزول عيسى آت لا شك فيه، كما يعلم أن آجال ذلك لا يعلمه إلا الله.
الثاني: أن التعبير عن المعلومة بالقول?لا يعلم تاويله إلا الله?، جعلت عددا من الدراسات القرآنية تذهب إلى القول بأن هناك آيات في القرآن الكريم، لا يعرف معناها من كل الوجوه إلا الله وحده، وهذا يتنافى مع تصريح القرآن من حيث كونه بيان، ومن حيث كون الرسول صلى الله عليه وسلم مبينا لما يحتاج من البيان إلى البيان.
وقد رتب الطبري على هذا التقسيم الاستشهاد له بما روي عن ابن عباس: "التفسير على أربعة أوجه وجه تعرفه العرب من كلامها وتفسير لا يعذر أحد بجهالته وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله".
والشاهد في هذا السياق يجعل القارئ في حيرة من معنى التفسير والتأويل في قول ابن جرير، كما يجعله يؤكد موقفه من كون الوجه الرابع من التفسير لا يعلمه إلا الله على إطلاقه، مع أن هذا المنقول عن ابن عباس لم تحقق روايته بمنهج المحدثين.
النموذج السادس: من البرهان للزركشي، في مبحث: ما نزل من القرآن مكررا. قال معللا، تكرار المنزل "وقد ينزل الشيء مرتين تعظيما لشأنه وتذكيرا به عند حدوث سببه، خوف نسيانه، وهذا كما قيل في الفاتحة نزلت مرتين، مرة بمكة ومرة بالمدينة"، والظاهر أن هذا التعليل لا يستقيم مع قول الله تعالى: ?سنقرئك فلا تنسى، إلا ما شاء الله ... ? [سورة الاَعلى/ الآيتان: 7 - 6].
فمع كون الفاتحة مما يحضر في كل ركعات الصلاة، والصلاة فرضت في مكة، تجد قولهم بتكرار النازل، ولعل الذي دفعهم إلى ذكر ذلك، كون آيات مدنية، تخللت سور مكية أو العكس.
قال الزركشي: والحكمة في هذا كله أنه قد يحدث سبب من سؤال أو حادثة، تقتضي نزول آية، وقد نزل قبل ذلك ما يتضمنها، فتؤدى تلك الآية بعينها تذكيرا لهم بها، وبأنها تتضمن هذه [16]. وفي هذا ما فيه من التحمل والتكلف.
ومن هذا الضرب ما عنون له صاحب البرهان، "بتقدم نزول الآية على الحكم"، ومثل له بقول الله تعالى: ?قد اَفلح من تزكى? [سورة الاَعلى/ الآية: 14] فإنه يستدل بها على زكاة الفطر، بما رواه البيهقي بسنده عن ابن عمر، ومع أنه نقل عن بعضهم قوله "لا أدري ما وجه هذا التأويل لأن هذه السورة مكية، ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة" فإنه ضرب صفحا عن هذا النقد، ورده بما قاله البغوي في تفسيره بأنه يجوز أن يكون النزول سابقا على الحكم [17].
وبنفس المنهاج استدل على نزول قوله تعالى: ?سيهزم الجمع ويولون الدبر? [سورة القمر / الآية: 45]، في مكة. وتأخر حكمها إلى المدينة، قال: قال عمر بن الخطاب، كنت لا أدري أي الجمع يهزم، فلما كان يوم بدر، رأيت رسول الله صلى الله عليه ويسلم يقول، (سيهزم الجمع ويولون الدبر) [18]. مع أنه واضح من نظم الآية وسياقها، أنها تخبر عن مستقبل، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم، رددها مستشهدا ومخبرا بصدق ما أخبر به القرآن، "لا نزولا لها قبل الحكم"، وإنما أخبر بما سيحدث، ويشهد لهذا قولة عمر سابقا في الآية، وفي عدد من المباحث في البرهان من هذا النمط كثير. من مثل قول عدد من المفسرين وأصحاب أسباب النزول [19]، أن قوله تعالى: ?اِلا تنصروه فقد نصره الله ... ? [سورة التوبة / الآية: 40]. الآيات أنها مكية في سورة مدنية مع أن سبب النزول وسياقه ودلالة الآية في سياقها تدل على أن الآية مدنية في سورة مدنية [20].
النموذج السابع: ونأخذه من كتاب قواعد التفسير، لخالد السبت، باعتباره ممثلا لما نحن بصدده في هذه المرحلة المعاصرة، وذلك في صورتين مشابهتين لما عند الزركشي.
¥