{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر 3] وهو صلى الله عليه وسلم كان يُسَبِّح بحمده دائماً, فعُلِمَ أنَّ المأمور به من ذلك التسبيح بعد الفتح ودخول الناس في هذا الدين أمرٌ أكبَر من ذلك المُتَقَدِّم, وذلك مُقَدِّمةٌ بين يدي انتقاله إلى الرفيق الأعلى, وأنه قد بقيت عليه من عبودية التسبيح والاستغفار التي تُرَقِّيه إلى ذلك المقام بقيَّةٌ, فأُمِرَ بتَوْفِيَتِها) (125).
وممَّا أكَّدَ المعنى عند ابن عباس رضي الله عنه اجتهادُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه السورة كأشَدِّ ما يكون اجتهاداً في أمرِ الآخرة (126) , وكذلك كونها آخر سورة نزلت جميعاً من القرآن (127).
* حاصلُ الرواية ونتيجتها:
ما فهمه الصحابة من جلساء عمر رضي الله عنه من الآية هو ظاهرها, وهو المعنى المطابق للفظ الآية, وهو معنى مليحٌ صحيح, سواء أُريد به الحمد والاستغفار باللسان, أو بالصلاة والدعاء, قال ابن كثير (ت:774): (فالذي فسر به بعض الصحابة من جلساء عمر رضي الله عنهم أجمعين, من أنه: قد أُمِرنا إذا فتح الله علينا المدائنَ والحصونَ أن نحمد اللهَ ونشكرَه ونسبحَه؛ يعني: نصلي له ونستغفره؛ معنى مليحٌ صحيحٌ, وقد ثبت له شاهد من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وقتَ الضُّحى ثماني ركعات, فقال قائلون: هي صلاة الضحى, وأُجيبوا بأنه لم يكن يواظب عليها, فكيف صلاها ذلك اليوم وقد كان مسافراً لم ينو الإقامة بمكة؟ ولهذا أقام فيها إلى آخر شهر رمضان قريباً من تسع عشرة يوماً يقصر الصلاة, ويفطر هو وجميع الجيش, وكانوا نحواً من عشرة آلاف. قال هؤلاء: وإنما كانت صلاة الفتح, قالوا: فيستحب لأمير الجيش إذا فتح بلداً أن يصلي فيه أول ما يدخله ثماني ركعات, وهكذا فعل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يوم فتح المدائن) (128).
وأمَّا تفسير ابن عباس رضي الله عنه فهو استنباطٌ جليل, من أدقِّ الفهم وألطفه, مُنتَزَعٌ من لفظ الآية, ومُتَبَصِّرٌ بلوازمها ومقاصدها, ولا يُدركه كلُّ أحد, قال ابن حجر (ت:852): (وفيه جواز تأويل القرآن بما يُفهَم من الإشارات, وإنما يتمكن من ذلك من رسخت قدمُهُ في العلم؛ ولهذا قال علي رضي الله عنه: (أو فَهماً يؤتيه الله رجلاً في القرآن)) (129) , ولذا وافقه عليه عمر رضي الله عنه, وهو ما تأوَّلَه رسول الله صلى الله عليه وسلم منها بفعله؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاةً بعد أن نزلت عليه {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر 1] إلا يقول فيها: (سبحانك ربنا وبحمدك, اللهم اغفر لي) , يتأَوَّلُ القرآن) (130). كما تأوَّلها عدد من الصحابة بأنه حضور أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم (131) , قال ابن عطية (ت:546): (وهذا المنْزع الذي ذكره ابن عباس, ذكره ابن مسعود وأصحابه, ومجاهد وقتادة والضحاك, وروت معناه عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم .. , وقال لها مَرَّة: (ما أراه إلا حضور أجلي) (132) , وتأوَّلَه عمر والعباس بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فصَدَّقَهما) (133).
وعليه جمهور المفسرين (134) , كمقاتل (ت:150) , وابن جرير (ت:310) , والواحدي (ت:468) , وابن عطية (ت:546) , والرازي (ت:604) , وابن تيمية (ت:728) , وابن القيم (ت:751) , والشاطبي (ت:790). (135)
* من مسائل هذا الأثر في التفسير:
أولاً: اشتمل تفسير الصحابة رضي الله عنهم لهذه الآية على معنيين:
- أحدهما: ظاهرٌ قريبٌ صحيح, وهو المعنى الذي ذكره من حضر من أشياخ بدرٍ من الصحابة رضي الله عنهم.
- والآخرُ باطِنٌ بعيدٌ أصحّ, وهو المعنى الذي ذكره ابن عباس ووافقه عليه عمر رضي الله عنه, وتأوَّله طائفة من الصحابة.
وقد يترجَّح المعنى الباطن البعيد, على المعنى الظاهر القريب, مع اشتراكهما في الصحة والقبول؛ لتفاوتهما في الدلالة على المراد, وكم من إشارةٍ أَغنَتْ عن عبارة. (136)
ثانياً: استكمل استنباطُ ابن عباس رضي الله عنه من هذه الآية شروطَ الاستنباطِ الصحيح, فجاء صحيحاً في نفسه, موافقاً لمقاصد القرآن, مرتبطاً بمعنى الآية غيرَ مناقض لها, مفيداً غير متكَلَّف, ولم يقصر معنى الآية عليه. فكان تفسيره بذلك خيرَ مثالٍ على استيفاء المعنى, وحُسن الاستنباط.
¥