ثالثاً: أن ابن عباس رضي الله عنه لم يتجاوز ظاهر اللفظ إلى ما يستنبط منه إلا بعد معرفة المعنى الظاهر واستقراره, وظهوره في تفسير الصحابة رضي الله عنهم, وقوله: (لا) في جوابه على سؤال عمر: (أكذاك تقول يا ابن عباس؟) ليس نفياً لتفسير الصحابة بالظاهر, وإنما نفياً لاقتصاره عليه دون مراده وما يستنبط منه, وهو تفسيره بدُنُوِّ أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رابعاً: أنه قد يقوى المعنى الخَفيّ في الآية عند المفَسِّر حتى يغيب معه المعنى الظاهر منها أو يكاد, ففي قول عمر لابن عباس رضي الله عنهما: (ما أعلم منها إلا ما تقول) نفيٌ لما فهمه جلساؤه من الآية وهو ظاهرها, وهذا مُشكِل؛ فإن ما ذكره الصحابة رضي الله عنهم معنى صحيح لا شك فيه, والأخذ بالظاهر أصلٌ جرى عليه التفسير النبوي وتفسير الصحابة رضي الله عنهم - ومنهم عمر وابن عباس - في غيرما موضع. ويُجَاب عنه بأنه ليس في قول عمر رضي الله عنه هنا إبطال لما فهمه الصحابة, أو عدم اعتبار للظاهر, وإنما ذلك منه مبالغة في تصحيح قول ابن عباس, وتأكيد له في مقابل قول جميع من حضر من الصحابة, وفيهم كبارهم من أشياخ بدر, ويشهد له سياق القصة؛ فإن عمر رضي الله عنه قصدَ من ذلك إظهار فضل ابن عباس وعقله وعلمه لَمَّا قالوا له: (لِمَ تُدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه مَنْ حيثُ علمتم) , فكان أن وافقه أشد الموافقة بتلك الصيغة, وقد تكررت هذه العبارة من عمر لابن عباس رضي الله عنهما في غير هذا المقام, على نحو هذا المعنى, قال ابن عباس رضي الله عنه: (كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدعوني مع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ويقول لي: لا تتكلم حتى يتكلموا. قال: فدعاهم وسألهم عن ليلة القدر, قال: أرأيتم قول رسول الله: (التمسوها في العشر الأواخر) , أيُّ ليلةٍ ترونَها؟ قال: فقال بعضهم: ليلة إحدى. وقال بعضهم: ليلة ثلاث. وقال آخر: خمس. وأنا ساكت, فقال: ما لك لا تتكلم؟! فقلت: إن أذنت لي يا أمير المؤمنين تكلمت. قال: فقال: ما أرسلت إليك إلا لتتكلم. قال: فقلت: أُحدِّثُكُم برأيي. قال: عن ذلك نسألك. قال: فقلت: السبع؛ رأيت اللهَ ذكر سبع سماوات, ومن الأرضين سبعاً, وخلق الإنسان من سبع, وبرز نبت الأرض من سبع. قال: فقال: هذا أخبرتني ما أعلم, أرأيت ما لا أعلم؟ ما قولك: نبت الأرض من سبع؟ قال: فقلت: إن الله يقول: {ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا} [عبس 26] , إلى قوله: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس 31] , والأبُّ: نبت الأرض مما يأكله الدواب ولا يأكله الناس. قال: فقال عمر: أعجزتم أن تقولوا كما قال هذا الغلام الذي لم تجتمع شؤون رأسه بعد؟! إني والله ما أرى القول إلا كما قُلتَ, وقال: قد كنت أمرتك أن لا تتكلم حتى يتكلموا, وإني آمرك أن تتكلم معهم) (137).
خامساً: ما فهمه عمر رضي الله عنه من هذه الآية استنباطاً, يُطابِقُ ما فهمه من قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة 3)؛ فإنه لَمَّا نزلت هذه الآيةُ فرح الصحابةُ رضي الله عنهم بهذا التمام, وبكى عمر رضي الله عنه مستشعراً نعيَهُ صلى الله عليه وسلم, وقال: (لم يكمُل شيءٌ إلا نقص) (138) , وما عاش بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إحدى وثمانين يوماً (139). وظاهرٌ اعتماد عمر رضي الله عنه في هذا الاستنباط على لازم معنى اللفظ, قال ابن كثير (ت:774): (ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت: (بدأ الإسلام غريباً, وسيعود غريباً كما بدأ, فطوبى للغرباء) (140)) (141).
سادساً: أن الذي مَيَّزَ ابن عباس رضي الله عنه عن غيره من الصحابة في هذا المقام وأمثاله من مقامات التفسير والبيان: دقَّةُ الفهم, وجودة الاستنباط, كما سبقت الإشارة إليه.
¥