والعقود كما يتبين من خلال تفكيك مفردات السورة لا ينحصر فيما يتعلق بالفقه العملي أي المعاملات وما إلى ذلك، وإنما –وهذا هو المقصود- بالجانب العقدي أساسا وإلا لما وجدنا رابطا بين طلب الوفاء بالعقود في بداية السورة، وبين الحديث عن أهل الكتاب واليهود والنصارى، ذلك أن العقد الإلهي الذي يعبر عنه في السياق القرآني بالميثاق أو العهد في مواقع أخرى هو العقد الأساسي والمهم والجوهري في الخطاب القرآني، إذ هذا الأخير يتمحور أساسا على ربط الناس بربهم بتصحيح التصورات عنه وببيان منهج التصور الصحيح حول هذا الموضوع، ويتفرع عن ذلك في مراحل لاحقة كل المواضيع الأخرى ذات البعد التشريعي أو الأخلاقي لكنها في المجمل أو المحصلة خادمة لهذا القصد التوحيدي.
وهذا ما وجدناه في سورة المائدة مبينا وواضحا بشكل انسيابي ومعجز في نفس الآن:
فالأحكام الشرعية التكليفية سواء العبادية أو الأخلاقية السلوكية جاءت لتعكس بعد الحاكمية الإلهية من خلال اتباع شرعه، كما أن التعقيبات الكثيرة على هذه التكليفات حملت مضمون هذه الحاكمية والحوار مع أهل الكتاب وتفنيد أباطيل اليهود والنصارى جاءت لتصحيح التصور العقدي حول موضوع الربوبية، كما أن التعقيبات عنها وعن سابقتها عكست بشكل جلي بعد توحيد الأسماء والصفات؛ فهكذا تصبح أمام مشهد ظاهري للآيات يعالج موضوع الأحكام الشرعية والجدال والحوار الديني لكن في عمقه ومقصده؛ فإننا بصدد مشهد عقدي يعالج موضوع التوحيد.
ولإدراك موقع ميثاق النصارى ضمن هذا كله نقترح الخطاطة التالية:
فالموقع البنائي لميثاق النصارى في السورة يقع بين الإحداثية التالية (محور الرد على أهل الكتاب، الخط العقدي)
3 - التركيب البنائي
يمكن معالجة التركيب البنائي لميثاق النصارى على الشكل التالي:
أ. الدواعي والموجبات
التي تحتم على النصارى تطبيق الميثاق:
- أخذ الله تعالى نفسه الميثاق منهم (الآية 5/ 14).
- دعوى التنصر (الآية 5/ 14).
- الوعد (الآيات5/ 84 - 5/ 85 - 5/ 449).
- الوعيد (الآيات 5/ 14 – 5/ 86 - 5/ 109 - 5/ 115).
- الإقرار من طرف النصارى (الآية5/ 83).
- إنزال المائدة (الآيات 5/ 112 - 5/ 115)؛ (فهي معجزة داعية للتصديق كما أنها تثبت إعجاز القرآن في ذكر الغيب التاريخي).
- التذكير بالميثاق (الآية5/ 14).
- البرهان الحجاجي القرآني في تنفيذ عقيدة النصارى المنحرفة (الآيات 5/ 17 - 5/ 18 – 5/ 75 – 5/ 76).
- ظهور الحقيقة يوم القيامة (الآيات 5/ 14 – 5/ 116 – 5/ 118).
ب. الشروط
- مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم.
- تصديق القرآن لما جاء في الإنجيل.
جـ. المجالات
العقيدة أساسا (موضوع التوحيد والإلوهية والتثليث ... الخ).
د. المضامين
- توحيد الله وتحريم الشرك (بشكل عام) (5/ 69 - 5/ 72 - 5/ 117).
- تحريم عقيدة إلوهية المسيح (5/ 17).
- تحريم عقيدة التثليث (5/ 73).
- الحكم بالإنجيل (وفيه اتباع محمد صلى الله عليه وسلم) (5/ 47).
- اتباع الرسول (مفهوم الموافقة) (5/ 83).
هـ. الاستحقاقات والنتائج
• استحقاقات الوفاء والتطبيق:
- رفع الخوف والحزن (5/ 69).
- خيل درجة الشهادة (5/ 83).
- الدخول مع القوم الصالحين (5/ 84).
- جزاء الجنة (5/ 85 – 5/ 119).
- نيل رضوان الله (5/ 119).
• استحقاقات النقض والتحريف:
- إلقاء العداوة بينهم (5/ 14).
- إلقاء البغضاء بينهم (5/ 14).
- العذاب الدنيوي بسبب الذنوب (5/ 18).
- حكم الفسق (5/ 47).
- الحرمان من الجنة والأنصار والدخول إلى النار (5/ 72).
- المس بعذاب أليم (5/ 73 – 5/ 115).
- جزاء الجحيم (5/ 86).
• العلل: (أو أسباب نقض النصارى للميثاق)
- النسيان (5/ 14).
- التوهم بأنهم أبناء الله وأبناؤه (5/ 18) (عقيدة شعب الله المختار).
- سوء فهم معجزات عيسى عليه السلام من إحياء الموتى وغيرها حيث أوهمهم شاول بولس أن هذه الأفعال لا تكون إلا من إله فاعتبر النصارى عيسى إلها (ن، تفسير السمرقندي، 1/ 423).
- عدم تدبر الآيات (الكونية والمكتوبة) كما أراد الله عز وجل (5/ 75).
- عدم استعمال العقل (5/ 76).
بالإضافة إلى ذلك هناك آيتا سورة البقرة اللتان تشيران إلى الأسباب التالية:
- كراهية إنزال الخير على غيرهم (2/ 105).
- الحسد (2/ 109).
الهوامش:
¥