?لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا?،
فلا ينبغي أن يسكن قلبَك يا موسى حُبُّ سواي، ولا أن تجرد وجدانك لغيري،
فمقام الإلهية يقتضي من الخلق الانتظام في سلك الخدمة والطاعة لسيد الكون، الربّ الأعلى.
وذلك تفريغ القلب من كل المقاصد سوى قصد الله،
وتجريده غصنا فقيرا بين يديه تعالى،
إلا من أنداء الشوق وخضرة الرضى،
تنساب مستجيبة لأنسام المحبة الإلهية أنىَّ هبّتْ، انسيابا لا يجد معه العبد كلفة ولا شقّا،
بل هو انسياب الواجد راحته ولذّته في عبوديته لرب العالمين،
واهب الألطاف الخفية، والأسرار البهية، الملك الحليم
ذي الجمال والجلال.
الله .. الاسم الجامع لكل الأسماء
?إِنَّنِي أَنَا اللهُ? ..
هذا الاسم العظيم الجامع لكل معاني الربوبية والإلهية،
يقتضي تمثله على مستوى القلب شعورا بالرغبة والرهبة،
وهما صفتان تفيضان عن القلب الذي وجد لمسة الحب، وهو مخ العبودية.
وإنما العباد سالكون بين ضفّتي الرغبة والرهبة، والخوف والرجاء.
فأنْعِمْ به مِنْ جمال في السير، وأكْرِمْ به مِنْ بهاءٍ في السُّرَى.
ولذلك قال له بَعْدُ ?لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا?؛ لأن المتمثل لحقيقة "الله"، ?إِنَّنِي أَنَا اللهُ? ربوبيةً وألوهيةً، لا يملك إلا أن يخضع لله شاكرا وعابدا. فليكن إذن خضوعا لا يشرك معه فيه أحدًا.
?لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا? ..
تقرير اعتقاد، نعم،
لكنه من العبد شعور ..
يحتاج إلى مصداق من الأعمال والفعال. وهل يملك من يجد في قلبه شيئا أن يكتمه؟ خاصة إذا كان هذا الذوق الموجود من الجمال والجلال ما لا يستطيع قلب بشري أن يحتمله سرًّا إلى الأبد. فلا بد إذن من التعبير، وذلك هو أركان الإسلام الخمسة: النطق بالشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا. أعمال وأفعال كلُّها تسلك بالعبد مسلك الخدمة والطاعة لله رب العالمين، وتشعر صاحبها بمقدار ما يجده في قلبه من الحب، وما يعترف به من إقرار على نفسه، إذ شهد أنه "لا إله إلا الله". فإلى أي حد هو صادق فيما عبر به عن نفسه؟ إنها شهادة على القلب. أفَتراه كان صادقا كل الصدق أم بعضه؟ ولذلك قال عز وجل لموسى: ?فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي?.
العبادة إذن هي "التعبير" .. التعبير الظاهر عما وجده المسلم في الباطن، إذ شهد ألا إله إلا الله. إنها تعبير المحب عما وجد من حب، وأيّ محبٍّ يستطيع الكتمان؟
الصلاة .. أمّ العبادات
وبقيت الصلاة في الإسلام كما كانت في الأديان السابقة أم العبادات. ولذلك خصها الله بالذكر هنا رمزا لكل خضوع وخشوع ?وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي? .. وما كل أركان الإسلام في الجوهر -مهما تعددت أشكالها- وهيآتها إلا "صلاة"! ولذلك قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم:
"رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة"
(رواه أحمد).
فكأنه عليه الصلاة والسلام يقول الإسلام هو الصلاة، لما في معنى الصلاة من جمع لكل مواجيد التعبد والخضوع لله رب العالمين، وذلك هو المقتضى العملي لكلمة الإخلاص "لا إله إلا الله". والترجمة الفعلية للأمر الملكي: ?فَاعْبُدْنِي? الذي جاء تفسيره وبيانه بعدُ مباشرة ?وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي?.
فيا لجمال "الذِّكْرِ" في سياق الصلاة!
ذلك التعبير المليء بالإيحاءات الوجدانية، التي تحدو الأحبة بالتراتيل الملتهبة شوقا لديار المحبوب.
وذكر الله هو مقام الأدب مع الله .. فالعبد الحقيقي هو الذي لا يفتأ يذكر سيده فلا ينساه .. وهل ينساه حقا؟
إذن ليس بعبد، وإنما العبد من كان دائم الحضور بباب الخدمة، لا يفتأ واقفا بأدب العبودية إلى جانب الأعتاب العليا .. فأنى ينسى مولاه؟
أن تصلي يعني أن تكون دائم الذكر لله .. ولذلك كانت الصلاة أرقى تعبير عن حضور القلب مع الله:
?وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي?.
تلك معان كلها تفيض عن شهادة أن
"لا إله إلا الله".
كلمة الإخلاص وعنوان الإسلام لله رب العالمين.
وهي الكلمة التي يفزع إليها المؤمن من الغم والكرب،
تماما كما يفزع الصبي إلى أمه عندما يلم به مكروه.
أتدرون لماذا؟
لأنها ببساطة أقرب الناس إلى وجدانه، ولو لم تكن كذلك لما نادى صبي في الدنيا إذا استغاث "أماه! ".
إلا أن العبد الذي سكن قصد الرب الأعلى قلبه، وامتلك عليه وجدانه لا يفزع إلا إليه، بمقتضى "لا إله إلا الله".
¥