تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

هل سمعت يونس عليه السلام إذ التقمه الحوت فغاص في ظلمات بطنه، وظلمات البحر والليل، ثم ظلمة الغم الشديد الضاربة على تلك الظلمات جميعا، ألم تسمع ماذا قال؟ يقول رب العزة حاكيا عنه:

?فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ?

(الأنبياء:87).

لقد كان أول التعبير استغاثة وجدانية ?لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ? ..

لا يملك مواجيدَ القلب إلا أنت!

لا محبوب، ولا مرغوب، ولا مرهوب إلا أنت!

ثم كان التسبيح والتنزيه فالاستغفار ...

يا سلام ... أي جمال هذا وأي كمال؟!

وأي أفق كريم فيما يتيحه هذا الدين السماوي للقلب من سياحة وسباحة في عرض الملكوت لاستدرار واردات الأنس والرحَموت؟ يونس هذا العبد العظيم الذي أدرك -وهو في بطن حوت ضخم جدا، يخوض به المجهول، في قاع المحيطات الرهيبة-

أن القلب إذا امتلأ بنور الله كان الله معه؛ ومن كان الله معه أمن أمنا كليا، فلا يعدو هول البحرِ والحوتِ حينئذ مقدار حشرة في مستنقع .. الله أكبر!

حقيقة الشرك وجذوره القلبية

إن شهادة ألا إله إلا الله لهي توقيع عقد، وإمضاء التزام، بضمان الهوى لله وحده كما في الحديث:

"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به"

(فتح الباري، 13/ 289)،

وكل ما جاء به صلى الله عليه وسلم هو "الإسلام". وقد علمتَ ما في هذا العبارة من معاني الخضوع للرب الأعلى. خضوع يفرغ القلب مما سوى الله. وهو أمر في غاية العمق الوجداني، والتحقيق الشعوري، ولذلك صعبت كلمة "لا إله إلا الله" على كفار قريش أن يقولوها، وهو أمر طبيعي، فقد أدركوا بفطرتهم اللغوية السليمة أن هذه الكلمة

تعبيد لمشاعرهم، قبل أن تكون تعبيدا لأفعالهم.

وهو الأمر الذي لم يقبلوه، إذ كان "الشرك" قد ران على قلوبهم فلم يستطيعوا منه فكاكا. وما حقيقة "الشرك" إلا أهواء ومواجيد، سكنت قلوبهم فلم تصْفُ بذلك لربها الملك الأعلى.

إن الشرك بهذا الإدراك معنى قلبي كالتوحيد تماما. أعني من حيث إنهما معا شعور يحدث في القلب،

وإن كانا متناقضين، كتناقض الحب والبغض، أو السخط والرضى.

فلم يكن من منطق الأشياء أن تدور معركة، بل معارك مريرة، بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين العرب من أجل أحجار هي الأصنام، التي كانت تعبد من دون الله.

بل إن حقيقة المعركة كانت حول ما ترمز إليه تلك الأحجار، من أهواء ساكنة في قلوب العباد.

فما كان صمود العرب في وجه الدعوة الإسلامية كل تلك المدة، حتى عام الفتح، حبا في الأوثان لذاتها، وإنما

حبا فيما كانت ترمز إليه،

وما كان يقع باسمها في قلوبهم من حب

لمجموعة من الأهواء، هي الآلهة الحقيقية التي كانت تعبد من دون الله؛ من حب للجاه، وحب للسيادة، وحب للمال، وحب للتسلط على الفقراء والعبيد باسم الآلهة، أو قل باسم الصخور الجامدة.

تلك الأهواء إذن هي الآلهة الحقيقية،

التي كانت تعبد من دون الله، وما كانت الأحجار إلا تجسيدا لها في عالم المادة، ورمزا لما في عالم الإحساس،

?أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ?

(الجاثية:23).

ومن هنا حرص النبي صلى الله عليه وسلم على

الإطاحة بأوثان الشعور، قبل الإطاحة بأوثان الصخور!

وقد ظل بمكة يعبد الله قبل الهجرة ويطوف بالبيت العتيق وقد أحاطته الأصنام من كل الجهات، لأن عمله حينئذ كان هو

إزالة أصولها القلبية، وجذورها النفسية؛

حتى إذا أتم مهمته تلك، كانت إزالة الفروع نتيجة تلقائية، لما سلف من إزالة للجذور ليس إلاّ. ولذلك قلتُ: إن الشرك معنى قلبي وجداني، قبل أن يكون تصورا عقليا نظريّا.

إن "لا إله إلا الله" -وقد سُمّيت كلمة الإخلاص- ليست إلا تجريدا قلبيا للهوى حتى يكون خالصا لله وحده. وكل حبّ تفرقت به الأهواء لم يكن إلا كذبا. والشهادة في الإسلام إقرار من صاحبها على نفسه، وما يجد في قلبه بالتصديق. فانظر أي قرار يتخذه الإنسان، حينما "يُسلم" لله رب العالمين، ويشهد "أن لا إله إلا الله"!

ــــــــــــــــــــــ

(*) جامعة مولاي إسمعيل، ورئيس المجلس العلمي بـ"مكناس" / المغرب.

http://www.hiramagazine.com/archives...ID=145&ISSUE=1 (http://www.hiramagazine.com/archives_show.php?ID=145&ISSUE=1)

رحمة الله عليك رحمةً واسعة يا فريد الأنصاري

المصدر:مجلة حراء ( http://www.hiramagazine.com/archives...ID=145&ISSUE=1)

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير