قال ابن القيم: (وبالجملة: فالقرآن ــ من أوله إلى آخره ــ صريح في تَرتُّب الجزاء بالخير والشر , والأحكام الكونية و الأمرية على الأسباب , بل ترتيب أحكام الدنيا والآخرة ومصالحها ومفاسدها على الأسباب والأعمال ومن تفقه في هذه المسألة , وتأملها حق التأمل , انتفع بها غاية النفع , ولم يتكل على القدر جهلا منه وعجزا وتفريطا واضاعة ,, فيكون توكله عجزا , وعجزه توكلا .. ! بل الفقيه - كل الفقيه – الذي يرد القدر بالقدر ويدفع القدر بالقدر, ويعارض القدر بالقدر , لا يمكن للإنسان أن يعيش إلا بذلك .. ! فإن الجوع والعطش والبرد وأنواع المخاوف والمحاذير هي من القدر , والخلق كلهم ساعون في دفع هذا القدر .. ! وهكذا من وفقه الله وألهمه رشده يدفع قدر العقوبة الأخروية بقدر التوبة والإيمان والأعمال الصالحة .. ! فهذا وزن القدر المخوِّف في الدنيا ومايضاده , فرَبُّ الدارين واحد , وحكمته واحده لا يناقض بعضها بعضا , ولا يبطل بعضها بعضا , فهذه المسألة من أشرف المسائل لمن عرف قدرها , ورعاها حق رعايتها .. ! والله المستعان.انتهى.
تطبيقات عملية لهذه القاعدة: ــ
1/ (تطبيق روحي) الانتفاع بالقرآن:ــ
((إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب , أو ألقى السمع وهو شهيد)) قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى} أي: لعبرة {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} أي: لُبٌّ يَعِي به. وقال مجاهد: عقل {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} أي: استمع الكلام فوعاه، وتعقله بقلبه وتفهمه بلبه.
وقال مجاهد: لا يحدث نفسه بغيره .. وفي الخبر: «إن لله أوانيَ ألاَ وهي القلوب، وأقربها من الله مارقَّ وصفا» شبَّه القلوب بالأواني؛ فقلبُ الكافرِ منكوسٌ لا يدخل فيه شيء، وقلبُ المنافقِ إناء مكسور، ما يُلْقى فيه من أوَّله يخرج من أسفله، وقلبُ المؤمنِ إناءٌ صحيح غير منكوس يدخل فيه الإيمانُ ويَبْقَى.
يشكو البعض أحيانًا من ضعف التأثر بالقرآن والانتفاع به , ومن راجع نفسه وحاسبها علم أنه إنما حصل ذلك له بسبب ضعف في الأخذ بهذين السببين أو أحدهما, فإما أن المرء يسمع القرآن بإذنه فقط , وقلبه غافلٌ لاهٍ , أو لضعفٍ في إيمانه وتقواه والقرآن ((هدىً للمتقين)) ,وهذه أسباب شرعية ربانية , وإما أنه لا يعير اهتمامًا لكيفية سماعه للقرآن من تجويد الصوت به والتغني بتلاوته أو سماعه من حَسَن الصوت , ولا يُهيء المكان والمناخ المناسب ويُطيب الأجواء ويُطهرها فإن هذا كله من الأسباب الكونية المعينة على التأثر بالقرآن, والانتفاع به.
وفي سورة الحاقة قال الله عن القرآن (وإنه لتذكرة للمتقين) سبب شرعي. وقال (وتَعيها أذنٌ واعية) أي من شأنها أن تحفظ ما يجب حفظه بتذكره وإشاعته والتفكر فيه ولا تضيعه بترك العمل به قال قتادة: الواعية هي التي عقلت عن الله تعالى وانتفعت بما سمعت من كتاب الله تعالى , وهذا سبب كوني.
قال ابن القيم:"القلب محل تلقي الوحي , فإذا أردت الانتفاع بالوحي فلا بد من تفريغ القلب من ضده , لأن إصغاء القلب مثل إصغاء الأذن , فإذا أصغى إلى غير حديث الله , لم يبق فيه إصغاء ولا فهم لحديثه , وإذا امتلأ بالشبه والشكوك , والمضحكات والصور المحرمة , والغناء المحرم الذي يصد عن الوحي , جاءته حقائق القرآن فلم تجد فيه فراغا لها ولا قبولا قتعدته وجاوزته إلى محل سواه" .... يتبع
ـ[عمر جمال النشيواتي]ــــــــ[22 Oct 2010, 10:04 م]ـ
2/ (تطبيق إيماني) الخشوع في الصلاة:-
قال ابن كثير عند قوله تعالى في وصف عباده المؤمنين: (الذين هم على صلاتهم دائمون) من الدوام والثبوت أي ثابتون لا يُكثرون التحرك , وهو من الأسباب الكونية وقيل: المراد بذلك الذين إذا عملوا عملا داوموا عليه وأثبتوه، وقال في موطن آخر (الذين هم على صلواتهم يحافظون) ويدخل في هذا كل سبب شرعي أو كوني.
¥