"وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} أي: بارتكاب محارم الله وتعاطي معاصيه وأكل أموالكم بينكم بالباطل {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} أي: فيما أمركم به، ونهاكم عنه."
وقال البغوي رحمه الله:
{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} قال أبو عبيدة: أي لا تُهلكوها، كما قال: "ولا تُلقوا بأيديكم إلى التَّهْلُكة" (البقرة -195)، وقيل: لا تقتلوا أنفسكم بأكل المال بالباطل.
وقال بن الجوزي رحمه الله:
قوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} فيه خمسة أقوال.
أحدها: أنه على ظاهره، وأن الله حرم على العبد قتل نفسه، وهذا الظاهر.
والثاني: أن معناه: لا يقتل بعضكم بعضاً، وهذا قول ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، والسدي، ومقاتل، وابن قتيبة.
والثالث: أن المعنى: لا تكلفوا أنفسكم عملاً ربّما أدى إلى قتلها وإِن كان فرضاً، وعلى هذا تأولها عمرو بن العاص في غزاة ذات السلاسل حيث صلى بأصحابه جُنباً في ليلة باردة، فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فقال يا رسول الله إِني احتلمتُ في ليلة باردة وأشفقت إِن اغتسلت أن أهلِك، فذكرت قوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والرابع: أن المعنى: لا تغفلوا عن حظ أنفسكم، فمن غفل عن حظها، فكأنما قتلها، هذا قول الفضيل بن عياض.
والخامس: لا تقتلوها بارتكاب المعاصي
وقال البقاعي رحمه الله:
"ولما كان المال عديل الروح ونهى عن إتلافه بالباطل، نهى عن إتلاف النفس، لكون أكثر إتلافهم لها بالغارات لنهب الأموال وما كان بسببها وتسبيبها على أن من أكل ماله ثارت نفسه فأدى ذلك إلى الفتن التي ربما كان آخرها القتل، فكان النهي عن ذلك أنسب شيء لما بنيت عليه السورة من التعاطف والتواصل فقال تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} أي حقيقة بأن يباشر الإنسان قتل نفسه، أو مجازاً بأن يقتل بعضكم بعضاً، فإن الأنفس واحدة، وذلك أيضاً يؤدي إلى قتل نفس القاتل"
قال سيد قطب رحمه الله:
" {ولا تقتلوا أنفسكم. إن الله كان بكم رحيماً}. .
تعقيب يجيء بعد النهي عن أكل الأموال بالباطل؛ فيوحي بالآثار المدمرة التي ينشئها أكل الأموال بالباطل في حياة الجماعة؛ إنها عملية قتل. . يريد الله أن يرحم الذين آمنوا منها، حين ينهاهم عنها!
وإنها لكذلك. فما تروج وسائل أكل الأموال بالباطل في جماعة: بالربا. والغش. والقمار. والاحتكار. والتدليس. والاختلاس. والاحتيال. والرشوة. والسرقة. وبيع ما ليس يباع: كالعرض. والذمة. والضمير. والخلق. والدين! - مما تعج به الجاهليات القديمة والحديثة سواء - ما تروج هذه الوسائل في جماعة، إلا وقد كتب عليها أن تقتل نفسها، وتتردى في هاوية الدمار!
والله يريد أن يرحم الذين آمنوا من هذه المقتلة المدمرة للحياة، المردية للنفوس؛ وهذا طرف من إرادة التخفيف عنهم؛ ومن تدارك ضعفهم الإنساني، الذي يرديهم حين يتخلون عن توجيه الله، إلى توجيه الذين يريدون لهم أن يتبعوا الشهوات!
ويلي ذلك التهديد بعذاب الآخرة، تهديد الذين يأكلون الأموال بينهم بالباطل، معتدين ظالمين. تهديدهم بعذاب الآخرة؛ بعد تحذيرهم من مقتلة الحياة الدنيا ودمارها. الآكل فيهم والمأكول؛ فالجماعة كلها متضامنة في التبعة؛ ومتى تركت الأوضاع المعتدية الظالمة، التي تؤكل فيها الأموال بالباطل تروج فيها فقد حقت عليها كلمة الله في الدنيا والآخرة:
{ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً، فسوف نصليه ناراً، وكان ذلك على الله يسيراً}.
وهكذا يأخذ المنهج الإسلامي على النفس أقطارها - في الدنيا والآخرة - وهو يشرع لها ويوجهها؛ ويقيم من النفس حارساً حذراً يقظاً على تلبية التوجيه، وتنفيذ التشريع؛ ويقيم من الجماعة بعضها على بعض رقيباً لأنها كلها مسؤولة؛ وكلها نصيبها المقتلة والدمار في الدنيا "
ـ[عصام المجريسي]ــــــــ[23 Oct 2010, 12:29 ص]ـ
يبدو من سياق سورة النساء أن المقاطع تبتدئ بالنداءات الرحمانية:
يأيها الذين آمنوا ...
أو:
يأيها الناس ...
وهذه الآية تبدأ فتقول:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا
وكلاهما - أي أكل الأموال بالباطل وقتل الأنفس - كبيرة من الكبائر الاجتماعية، وقد جاءت الآية بعدُ تنهى عن ذلك بتوسع:
إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم ومدخلا كريماً (31)
ثم جاءت الآيات بعدها توصي بصيانة المجتمع وترتيب علاقاته ...
حتى الآية التي تقول:
يأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ...
التي هي مطلع مقطع جديد ..
إن نظن إلا ظناً! ..
والله أعلم.
¥