تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وبيَان ذَلكَ في موضُوعِنا أنَّ تكوينَ إنسان ذَاكر مُسبِّح أوَّاب؛ مُخبت قاتِت مُنيب؛ عارِف بربِّه؛ مستنير بوَحيه؛ مُدرِك لِمصيرِه، بصير بِالقَوانين الإلهيَّة التي تَحكُم عالَمي الغَيب والشَّهادة؛ هُو أوَّل لَبِنة مِن لبِنات الحَضارة بِمعناها القُرآني الأصيل؛ لا البَشري الدَّخيل!

لو لَم يُضِف الذَّاكِر المُسبِّحُ إلى الحَياة الحَضاريَّة شيئا يُذكَر؛ إلاَّ أن أُمِن مِنه الشَّر والسَّعي في الأَرض فسادا؛ لكانَ هذا في حدِّ ذَاتِه إسهاما كَبيرا في قيام الأمَّة ورُقيِّها وازدِهارِها؛ فكيفَ إذا كانَ يُصلِح، ويُعلِّم، ويأمُر بالمَعروف ويَنهى عَن المُنكَر، ويحُضُّ على طَعامِ المِسكين، ويَدفع غائِلة الشَّر، ويسعى لأَن يكُون خَليفَة لله في أرضِه بتَجسيد مَنهجه على أتمِّ الوُجُوه وأكمَلِها؟!

إنَّ مِن أعظَم ما يُعيقُ قِيام الحَضارات والمدنيَّات (باعتراف زُعمائِها وُمنظِّريها) هي الشُّرور والجَرائِم والتَّصرُّفات السِّيّئة التي تَصدُر مِن أُناسِ تِلك الحَضارة ... قتل، عُنف، صراعات طائفية، تكتُّلات عِرقية، نزاع على السُّلطة، رشاوى الحُكَّام، خمور ومُخدِّرات، فساد إداري، بيروقراطية، تهريب أموال، شبكات بغاء، تمزق أسَري، اغتصاب ... وهلُمَّ جرا، والقائِمة لا تَنتَهي؛ ولَعمر الحقِّ إن جلسات خاشِعات؛ كتِلك التي حَكاها الله تَعالى عَن عَبده ونبيِّه داوود بالعَشي والإشراق؛ وفي ذِكر النِّعم والاعتِراف للمُنعِم الوهَّاب بِها فقَط "لا نَبرَح" لكفيلَة بِاجتثاث تِلك الأَمراضِ كلِّها في وَقت وَجيز؛ إن صَدقت العَزائِم، وصَفت السَّرائِر، وأخلَصت القُلوب وأدامَت العَهد مَع ربِّ الأَرض والسَّماوات! فهلاَّ اختَزلنا تِلك الحُلول التَّرقيعيَّة التي جرَّبناها ونُجرّبُها ليلَ نَهار في حَيرَة عجيبة، وسَكرة مُبينَة؛ وألقَمنا أفواهَنا الحَجر عن الشِّعارات تِلو الشِّعارات التي لَم تَزِدنا إلا حَسرة ونَكبة، وتقهقرا، ومَزيدَ وَبال وخَسار، وحَرِصنا على إقامَة حلقات الذِّكر لأهالينا وأبناء مُجتَمعِنا، والعالَم أجمَع!

مُستَحيل وألفُ مُستَحيل أن تَقُوم حَضارة أو مَدنيَّة أو أن تُستَرجَع أرض مَسلُوبَة، أو يُمكَّن لإنسان أو أمَّة في أرض؛ والمَعاصي تَنخُر كَيانَها، وبيُوتُ الله خاوية على عُروشِها بُكرة وأصيلا!

{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105].

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].

ما بالُ بَعض القَوم لا يَفتأ يَعتَبِر الذِّكر والخُشوع مع آيات الله انتشاءً واستِحلاء، وتِلاوَة البيِّنات استِرقاء! ويلمِزُ التَّائبين الباكينَ على ذُنوبِهم؛ المُجدِّدين العَهدَ مع ربِّهم؛ بأنَّ هذا لا يعدُو أن يَكُون بُركانَ مشاعِر، وتأجُّجَ عَواطِف! ويَرى مَجالِسَ الذِّكر فراغا وعطالَة، وشُغلُ مَن لا شُغلَ لَه! وَلو استَبانَ الإِنسان الفَوائِد (الحَضاريَّة) التي يَجنيها المُجتَمع لَو أنَّ أُناسَه ذَاكِرين؛ لتَواصَت الحكُومات بإجبارِ سُكَّانِها على مُلازَمة حلقاتِ الذِّكر بُكرة وعَشيا؛ كَما تُجبِرهُم على الضَّرائب والالتزامات الوطنيَّة المَعهُودَة!

لا أَدري أيُّ سبيل يرى أولئك لإخراجِ المُجتَمع مِن دائِرة التَّخلُّف إلى رَكبِ الحَضارَة غَير البِداية بَتزكية الأَنفُس وحلَقات الذِّكر، لتَتصافى القُلوب، وتُردَّ المَظالِم، وتُمحى الآثار السَّالِفة، ويُبدَأ عَهد جديد مَع الله لِلتَّمكين لِدينِه، وعِمارَة أرضه! بل لا أَدري ماذا يُريدُون أن يُحققوا في أُمَّتِهم، ويَرَوا في مُجتمعم حتَّى تَطمئنَّ نُفوسُهم إلى أنَّهُم وصلُوا إلى الحَضارة؟! أبُنوك كبُنوك سويسرا؟ وعمارات شاهقات كعمارات نيويورك؟! أم أنفاق كأنفاق بريطانيا، ومتاحف كمتاحف فَرنسا، وحدائق كحدائق النَّمسا؟! لا أدري أيَّ مِعيار للحضارة والتَّمكين لَديهِم!

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير