تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

يحضُرني الآن للتَّدليلِ أكثَر على ما أقُول - على سَبيلِ المِثال لا الحَصر- حَوادِث السَّير والمُرور التي لا تُوجَد دَولة في العالَم إلا وتَشتِكي مِنها، والاحصائِيات السَّنوية مَهُولة؛ وهذه الحَوادِث عِندَ التَّحقيق ليسَت (في أغلَبِها) إلا نتيجَة عربَدة أو إفراط جُنوني في السُّرعَة، أو قَلق نَفسي، أو طَيش شَبابي، أو استِعراض للمَهارات في القِيادَة؛ وكلُّ هذه الأُمور لا يُمكِن أن تصدُر مِن إنسان ذاكِر خاشِع؛ فانظُر كَم سيُوفِّر المُجتَمع على نَفسِه مِن أرواح وأموال ب (مُجرَّد) حلقات ذِكر يُقزَّم مِن شأنِها!

وانظُر كَم ستُوفِّر الدُّول على نَفسِها؛ لَو استَعاضَت بالسُّجون والمُؤسسات العِقابيَّة – المُرهِقة المُكلِّفة لخَزينة الدَّولة- مستَشفيات قُرآنيَّة مُغلقَة؛ تُتلى فيها آياتُ الله آناءَ اللَّيل وأطرافَ النَّهار؛ لمُدَّة أُسبُوع أو نِصفَ شَهر إجباريَّا؛ فستَكُون حينئذ تِلك المُؤسسات " إعادة تربية" فِعلا لا شِعارا؛ فَمن لَم يُربِّه القُرآن فلا مُربّي لَه؛ ومَن لَم تَزجُره مَواعِظُه فَلا زاجِرَ له؛ لا أن يُزجَّ المِسكينُ في غيابات السِّجن سِنين عَددا في ظُلمات بَعضُها فَوقَ بعض (حسا ومَعنى)؛ يتعلَّم فيه مِن أسلافِه في الإجرَام ما لَم يَعلَمه مِن قَبل، ويَخرُج ناقِما حاقِدا يَفعَل في المُجتَمع ما لم يُفكِّر أن يَفعَله قَبل أن يُقادَ إلى السِّجن! ولا أعني طَبعا بِكلامي –طَبعا- إلغاء التَّعازير المُختَلفة لمَن أصرَّ واستَنكَف ولَم يَرعَوِ، ولَم تَنفعه الذِّكرى؛ ليَذُوقَ وَبالَ أمره!

أظنُّ أنَّه قَد باتَ مِن الوُضوح بِمكان؛ أنَّ أوَّل خُطوَة جادَّة فاعِلة في سَبيلِ الحَضارَة؛ لا يُمكِن بِحال تَجاوزُها والقَفز فَوقَها أن نَتعاوَن على إقامَة مُستَشفياتِ ذِكر دائِمة؛ بُكرة وأصيلا؛ في بُيوتِ الله عزَّ وجل أولا؛ وفي أيِّ مَكان جَامِع يُحقِّقُ المَقصُود، ونَجتَهد في دَعوَة النَّاس جَميعا إليها- سيَما الشَّاردين والنَّادِّينَ عَن مَنهج الله- ليسمَعُوا كَلامَ الله، وتُشفى صُدُورُهم بِنُورِه!

هذا أوَّل عَمل حَقيقي جاد لِمَن أرادَ أن يخرُجَ مِن دُنيا الشِّعارات والبَريق والبَهارِج والنَّظريَّات، إلى دُنيا الحَقيقَة والأَثر الواقِعي المَلمُوس؛ وإنَّه لَصعب على كَثير مِن النُّفوس على بَساطتِه وفِطريَّتِه!

كَم يسهَلُ أن أجلِس في مَكتبي أو مَكتبَتي، وأُدبِّجَ العبارات، وأُنمِّق الألفاظ، وأتفنَّن في الأساليب والتَّعابير إلى حدِّ الإلغاز (كَما يحلُو لبعض مَن يُسمَّون بالمُفكِّرين)، وأُصدِر كِتابا زاهيَ الطِّباعَة؛ مليء بالأَحلام والاقتراحات؛ تَنفدُ مِنه طَبعات تِلوَ طبَعات ... ولَكن أن أجلسَ مع البُسطاء والعَوام أصبِر مَعهم وأُذكِّرُهم بأحسَنِ الحَديث، وأُعاهِد نَفسي على حَلقات يَوميَّة في عشيرتي أو في مَسجد بلَدي بُكرَة وأصيلا، وأسافِر في الآفاق لتبليغِ نُور الله؛ وأتعلَّم اللغات لمُخاطَبة إخواننا الأعاجِم؛ فذَلِك هُو المَحك الذي قلَّ مَن يسلُكُ صُعُداتِه، ويَصبِر على أوعارِه!

كَم استَغربتُ من إنسان اشتَكى إليَّ مِن عهد قريب صُعوبَة تواصُلِه مَع زَوجِه، وعَدم قُدرَتِه على إذابَة الجَليد مَعها مُنذُ زواجِه بِها؛ وأنا أعرِف مِن سيرَة هذا المَخلُوق أنَّه ممَّن مَلأ الدُّنيا ضَجيجا في هذه المواضيع (الحضارة، التقدم، العَصرنة، الحداثة ... ما بعد الحداثة، موش عارِف إيش)؛ فقُلتُ في نَفسي سُبحان الله: رجُل لَم يفكَّ اللغز بينَه وبينَ أقرَب الناس إليه؛ يُريدُ أن يُقيمَ حضاااااااارة، ويُواكب العَصر، ووو!! بماذا؟!

الخطوَة الثَّانية (أو لِنقُل الشِّطر الثَّاني) مِن خُطواتِ الحَضارة؛ هي اتِّباع الأَسباب، والأَخذ بنَواميس الكَون والمادَّة وِفق مَعاييرالقُرآن وضَوابِطِه دَوما؛ فالقُرآن كَما فصَّل الغَيب وبيَّنه؛ قنَّن المادَّة وأحكَمها؛ والصِّبغة العامَّة في القُرآن المُزاوَجة بينَ عالَمي الغيب والشَّهادة، وعَدم فَصل أحدهما عَن الآخر؛ ولِذا وَصفَ الباري المُعرِض عَن الوَحي بأنَّه لا يَعلَم إلا ظاهِرا مِن الحياة الدُّنيا؛ أي لا يَعلمُها على سَبيلِ الحَقيقَة؛ لأنَّ العالِم لَها حقيقَة هُو جَمع بين القِراءَتين؛ قِراءة كتاب الله المَسطُور، وقراءة كِتابِه المَنظُور!

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير