تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

{يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7].

وهَذه الخُطوَة نستَلهِمُها مِن مَقطَع آخَر في القُرآن يَحكي عَن نبي الله داوود دائما؛ فسنَلفاهُ هذه المَرَّة في بَحر الحياة كادِحا عامِلا، مُشمِّرا عَن ساعِديه لإثارة الأَرض وعِمارَتها!

يقول تعالى في سورة سبأ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ. أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ: 11].

البداية دَائما بالتَّسبيح الذي بِه يُنزِل الله البَركة التي تَطالُ حتَّى المادَّة ولَو كانَت حديدا!

لاحِظ هذا التَّقابُل الرَّائِع بينَ المادَّة والغَيب؛ الذي لَو أدرَكه الحِرفيُّون والصِّناعيُّون لَذهبُوا بَعيدا!

{يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ: 10].

ولَكن لا يَعني إلانتُنا لَك الحَديد يا داوود أن تتَواكَل، وتُهمِل الأَسباب! لا! بل اعمَل سابِغات وقدِّر في السَّرد وأتقِن صَنعتَك وحِرفَتك؛ ولَكن اعلم أنَّ عنايتنا، ومَعُونتنا لَن تتخلَّف عَنك ما دُمت مُسبِّحا ذَاكرا! وتحرَّ الصَّلاح والإصلاحَ (بكل ما تحملان مِن مفاهيم) في مُستَهل أمرِك وعاقبتِه، لأنَّ الخالِق سميع بصير لا تَخفى عَنه خافِية!

أيُّ مَنهج – غير كِتاب الله تعالى – يُوجِز لَنا هذه المَعاني في عبارات حِلوة، غزيرة الدَّلالات؛ لا تَطويل فيها ولا تصديعَ للرؤوس!

ويُذكِّرُني الحَديدُ والقِطر بِقصَّة أُخرى حكاها لَنا الباري عزَّ وجل في كِتابه عَن مَلك مكَّن الله لَه في أرضِه وآتاه مِن كلِّ شَيء سَببا؛ فاتَّبعَ الأسباب، وطافَ في مَشارِق الأَرض ومَغاربِها؛ قوَّاما بالقِسط حاكما بالعَدل!

{وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89)} الكَهف.

ولَكن يتبادَر مِن خلال تتبع قصَّتِه ظاهِرا، سُؤال أنَّ الله تَعالى لَم يذكُر لنا سببَ تمكينِه نصا!

إلا أنَّ القارئَ المُدرِك لِقوانين القُرآن يُدرِك سرَّ التمكين مِن غير كَبير عَناء! إنَّه في الذِّكر والتَّسبيح!

تأمَّل معي هذه العبارات التي لا تشمُّ مِنها رائِحة غَطرسة أو تعال أو جبروت؛ إن هُو إلا مَحض الاستسلام والانقِياد، وإرجاعِ الفَضل إلى أهله سُبحانَه!

{قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف: 95].

{قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي} [الكهف: 98].

{فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً} [الكهف: 98].

يستَحيلُ أن تصدُر هذه العبارات مِن قَلب فارغ مِن ذكر الله تعالى!

ولا تَسَل عَن نبي الله سُليمان؛ وما وَهبه الله مِن مُلك ومال، وما سخَّر لَه مِن أشياءِ الكَون تَخدُمه وتُطيعُ أمرَه؛ ولا نَستَغرب هذا العَطاء حينَ نقِف مبهُورين أمام مَوقِفه العَجيب الذي نَقله الله تعالى إلينا في سورة "ص".

{وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)} ص.

عشيَّة واحِدة أخي الكَريم غفَل فيها نبي الله سُليمان عَن ذِكر ربِّه لم يَضنَّ أن يُقدِّم فِداء لَها جيشا مِن الصَّافنات الجِياد! ونَحن لا زِلنا نُناقِش بعَقليَّة قاصِرة ضيِّقة: ما حُكم البُكرة والأصيل؟! وما حُكم من أفضَى إلى ربِّه ولَم يَجلس في حلقات البُكرة والأصيل هل يُعتَبر هالِكا؟! وهكذا!! وكأنَّ هذه الآيات لَيسَت قُرآنا مُبينا يُتلى، وتَنطبِق علينا قَوانينُه!

يُمكِنني في الأخير أن أصُوغ بكلِّ أريحيّة مُعادَلة الحَضارة في القُرآن الكَريم:

ذكر كثير وتسبيح كثير بالبُكرة والأَصيل + اتباع الأسباب والنَّواميس وِفق ضوابِط ومعايير قُرآنية

أسأل الله أن يُوفِّقني وإيَّاك أخي العَزيز إلى التَّعاوُن على تَجسيدِ هذه المُعادَلة في مَيدان الحياة بكُلِّ أنواعِ التَّعاوُن وأشكالِه، وأن يُوفِّقَني وإيَّاك إلى صالِح القَول والعَمل، وأن يَجعلنا حضاريين حقيقَة لا شِعارا؛ إنَّه سَميع قريب مُجيب، والحمد لله رب العالمين.

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].

? بقلم الطَّالب: نسيم بسالم

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير