والمشكلة أنّ الحديث لا يمكن الاستفادة منه في ظاهرة صوتية كهذه؛ لأن الحديث لم يجمع جمعًا صوتيًا، وجاء تدوينه في وقت استقرت فيه قواعد العربية في أذهان المشتغلين بها، ولاشك أن هذا له أثره في مراعاة مقتضيات الإعراب عند تدوين نصوص الأحاديث. وأما استخدامها في الكتب فهو أيضًا يخضع للتدقيق النحوي يجريه المصنفون والمحققون.
ونحن الآن أمام أمور واضحة هي:
1) لا نعلم علم اليقين أن العرب صرفت (أشياء) أو منعتها الصرف.
2) الأشعار التي وردت فيها (أشياء) مصروفة محتملة أن تكون صرفت فيها ضرورة؛ لأنهم مما يضطرون إليه صرف ما لا ينصرف. وهي أشعار قليلة يدخلها الاحتمال وما يدخله الاحتمال يبطل به الاستدلال.
3) أن (أشياء) من حيث هي جمع لـ (شيء) لا علة لمنعها الصرف.
4) أن منعها الصرف في القرآن محتمل لأن يكون لعلة صوتية على نحو ما بيّن علماء الأصوات، ولكن ذلك غير مقطوع به كل القطع، لما ذكر من ورود ما تحققت فيه العلة الصوتية ولم يمنع الصرف؛ ولأن اللفظ من الألفاظ المتداولة الشائعة التي يستبعد أن يغيب شأنها عن اللغويين والنحويين، ولعل ما يؤنس بهذا قول أبي حاتم إن النحويين سمعوها من العرب ممنوعة من الصرف وقد مر ذكر قوله آنفا.
5) أن النحويين القدماء مطبقون على أنها ممنوعة من الصرف، وعلى هذا جرى استخدامها في لغتهم إلى يومنا هذا. وقد اعتمد النحويون في منعها الصرف على موضع واحد؛ غير أن القرآن قد يصرف فيه الممنوع من الصرف وقد يمنع ما حقه الصرف وذلك رعاية لمقتضيات صوتية.
6) إن من يدعو إلى صرفها إنما يقيسها على أمثالها أي يعود بها إلى الأصل فيها.
إذن؛ أفنصرف (أشياء) رعاية للأصل فيها ومتابعة لبعض الأشعار ولأن علة منعها في القرآن كراهة المتماثلات أم نتابع القدماء في الذي جروا عليه من منعها الصرف؟ والجواب عندي أن اللغة ليست عقلاً؛ بل هي اصطلاحية، وكثير من الاستخدامات كانت نتيجة ظروف خاصة ونتيجة أخطاء ونتيجة أوهام، وكل ذلك أخذ طريقه في اللغة وأصبح جزءًا منها؛ فمهما يكن السبب الذي جعل القدماء يستخدمونها ممنوعة من الصرف فهي صارت في الاصطلاح ممنوعة من الصرف؛ لذلك أرى أن تستخدم (أشياء) مصروفة وفاقًا للقياس أو ممنوعة من الصرف وفاقًا للعرف الشائع، وهذا نظير أعلام الإناث الثلاثية ساكنة الوسط مثل (دعْد)،و (هنْد)؛فهي تصرف أو تمنع الصرف، قال عمر بن أبي ربيعة:
تلك هندٌ تصدُّ صدّا أدلالٌ، أم هجرُ هندٍ أَجدّا؟ (114)
ليت هندًا أنجزتنا ما تعد وشفت أنفسنا مما تجد (115)
ومثلها الأسماء الأعجمية الثلاثية ساكنة الوسط مثل (نوح)،قال تعالى:?إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا? [1 - نوح]
ويمكن القول وفاقًا لذلك أنه ليس من قبيل الضرورة الشعرية صرف أشياء في قول بهاء الدين زهير:
وفيه أشياءٌ وأشياءٌ أخرْ وقهوةٍ تسدّ أبوابَ الفِكَرْ (116)
إذن يمكن لمن أراد صرف (أشياء) أن يقول: هذه أشياءٌ كثيرةٌ، وجمعت أشياءً كثيرةً. وعُنيت بأشياءٍ كثيرةٍ. ويمكن لمن أراد منعها الصرف أن يقول: هذه أشياءُ كثيرةٌ، وجمعت أشياءَ كثيرةً. وعُنيت بأشياءَ كثيرةٍ.
* * *
المصادر والمراجع
أمين؛ محمد شوقي، ومصطفى حجازي:
في أصول اللغة (ط1،مجمع اللغة العربية/القاهرة،1975م.)
الأنباري؛ كمال الدين أبو البركات عبدالرحمن بن محمد بن أبي سعيد (ت 577ه):
الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين: البصريين والكوفيين، بعناية: محمد محيي الدين عبدالحميد (ط4، المكتبة التجارية الكبرى/القاهرة، 1961م.) 2/ 818.
الأنصاري؛ أبوزيد سعيد بن أوس بن ثابت (ت215ه):
النوادر في اللغة، (ط2، دار الكتاب اللبناني/ بيروت، 1967م.)
ابن برد؛ بشار (ت 168ه):
ديوانه، عناية: محمد الطاهر ابن عاشور ومراجعة محمد شوقي أمين (لجنة التأليف والترجمة والنشر/ القاهرة،1957م.)
ابن جندل؛ أبونصر هارون بن موسى بن صالح القيسي المجريطي القرطبي (ت 401ه):
شرح عيون كتاب سيبويه، تحقيق: عبدربه عبداللطيف عبدربه (ط1، مطبعة حسان/القاهرة، 1984م.)
ابن جني؛ أبوالفتح عثمان (ت 392ه):
-المنصف، تحقيق: إبراهيم مصطفى وعبدالله أمين (ط1، مصطفى البابي الحلبي/ القاهرة، 1954م.) 2/ 94 - 95.
- سر صناعة الإعراب، تحقيق: حسن هنداوي (ط1، دار القلم/دمشق، 1985م.)
الجوهري؛ إسماعيل بن حماد (ت 393ه):
¥