الذي لم يفهمه اللسانيون المحدثون = هو أنّ اللغة العربية لغةٌ غنيّةٌ؛ فيها من طرائق التراكيب و خصائصها ما يجعلها قادرةً على التعبير و التصوير في كل زمانٍ و مكان؛ دونما حاجةٍ إلى التماس كلامِ العوامّ و إدخاله في الفصيح , و متى كانت العاميّة ملاذًا للفصحاء يلتمسون فيها ما لم يجدوه في العربيّة الفصيحة؟!
و متى كانت الأخطاء تطوّرًا في اللغة؟!
و كيف لنا أن نقول ـ مع هذا ـ إنّ القرآن معجزٌ بلسانٍ عربيٍّ مبينٌ, وهذا اللسان العربي المبين الذي نزل به = قد بلغ من العجز و الافتقار الدلالي ـ كما يقرِّرُه اللسانيون المحدثون ـ ما اُحتيجَ معه إلى أنْ يُسدًّ عجزُه بهذا العاميّ الذي لا يَصِحٌّ؟!
إنهم ليقولون منكرًا من القول و زورا , و الله المستعان على ما يصفون!
إنّ العجز الدلالي ـ حين يوجد ـ لا يكون إلا في المعاصرين الناطقين بهذه اللغة لا في لسان العرب العظيم ,أفلا ترى إلى ابن جنّي حين أخذ بلبِّه من هذه اللغة جمالها و كمالها و جلالها = أوشك ـ و هو يُكاثِرٌ رأيين في أصلها ـ أن يعدّها في صورتها تلك = وحيًا من الله تعالى؛ فقال:
" واعلم فيما بعد أنني على تقادم الوقت دائم التنقير والبحث عن هذا الموضع فأجد الدواعي والخوالج قوية التجاذب لي مختلفة جهات التغول على فكري. وذلك أنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة وجدت فيها من الحكمة والدقة والإرهاف والرقة ما يملك علي جانب الفكر حتى يكاد يطمح به أمام غلوة السحر. فمن ذلك ما نبه عليه أصحابنا رحمهم الله ومنه ما حذوته على أمثلتهم فعرفت بتتابعه وانقياده وبعد مراميه وآماده صحة ما وفقوا لتقديمه منه. و لطف ما أسعدوا به وفرق لهم عنه.
وانضاف إلى ذلك وارد الأخبار المأثورة بأنها من عند الله عز وجل فقوي في نفسي اعتقادُ كونها توقيفاً من الله سبحانه و أنها وحي.
ثم أقول في ضد هذا: كما وقع لأصحابنا ولنا وتنبهوا وتنبهنا على تأمل هذه الحكمة الرائعة الباهرة كذلك لا ننكر أن يكون الله تعالى قد خلق من قبلنا - وإن بعد مداه عنا - من كان ألطف منا أذهاناً وأسرع خواطر وأجرأ جناناً.
فأقف بين تين الخلتين حسيراً وأكاثرهما فأنكفيء مكثوراً.
وإن خطر خاطر فيما بعد يعلق الكف بإحدى الجهتين ويكفها عن صاحبتها قلنا به وبالله التوفيق. " (الخصائص) ..
ثمّ متى كان الاجتهاد يؤخذ من غير المختصين في الفنّ الذي فيه يُجتَهدُ؟! و كيف يكون كلامُهم ـ مع هذه الصفةِ ـ مُدهشًا مُبشّرًا بخير؟!
لا أدري كيف يجوزُ مثل هذا القولِ على العقلاء؟! بل كيف يقول به من يزعمُ أنّه يريد تطوّر اللغة؛ أفيكون تطوّرُها بالخطأ ,و بالتلقّى عن غير المختصين؟! ثمّ إنّي في ختام كلمتي هذه لأعجبُ كيف تُجعَلُ العاميّةُ إمامًا في حَرَمِ الفصيحِ؟!
هذا بيانٌ للنّاس و ليُنذَروا به!
نفثة:
الذي نقلتُه هنا و بيّنته هو قليلٌ من كثيرٍ, وإن العجبَ ليأخذ بي كلَّ مأخذٍ = من قومٍ يلهجون بحبِّ جميلةٍ فاتنة , ثمَّ يرون محبوبتَهم تُذبَحُ على أعينهم, دون أن يكون منهم إنكارٌ, و أعجبُ منه أنْ تراهم ينكرون على من أنكر, و يكافئون القاتلَ العابثَ بجمالها الساحر!
و لئن اتّسع بي وقتي لأُوسِعنَّ هذا الباب بيانًا؛ على شدّة بيانه و وضوحه, و هذا ـ و الله ـ من فساد الزمان و الأذهان؛ أن يَحتاجَ النهارُ إلى دليلٍ و برهان!
و فقني الله و إياكم إلى الصواب, و هدانا إلى ما ينصر لغة الكتاب!
ـ[د. عليّ الحارثي]ــــــــ[30 - 10 - 2008, 09:25 م]ـ
هذه آخر كلمة لي في الموضوع: الحجر على العقول في مجال العقول صنعة عربية, لا أقول إسلامية.
وليت بعضنا يعمل بما يقول.
هذه الكلمة أخي ضاد:
"البحث في اللغة ليس ضربًا من تحصيل الحاصل و استرجاع القديم! "
ليتك تعرفُ قدرَها , و ليتك تعرف المقصود بـ (القديم) فيها؛ فإنّ من بيننا من يستجرّ كلام غيره, ويردّده دون وعي بما فيه!
أمّا الحجرُ على العقول؛ فهو واجبٌ شرعيٌ إذا تحقق شرطُ الحجر!
فالعقل لابد أن يوافق النقل الصحيح, وإلا كان وبالًا على صاحبه, و دونك ما يجري الآن في العالم من حولك؛ لترى ما صنع (العقل الحرّ)!
ـ[أ. د. أبو أوس الشمسان]ــــــــ[30 - 10 - 2008, 10:06 م]ـ
أخي الدكتور عليّ الحارثيّ حفظه الله وسلمه ورعاه.
لست وحدك الغيور على العربية، فكل غيور على أمته وهويته غيور، ولكن المشكلة في التعبير عن الغيرة، والنزوع إلى الدفاع بطريقة غير ملائمة للغرض، ومثلك مثل رجل اكتشف الطبيب أن ابنه يشكو مرضًا يحتاج معه إلى عملية جراحية، ولكن الرجل لفرط حبه لابنه يأبى العلاج، وينكر مرض ابنه وحاجته إلى علاج. كلنا نغار على العربية ولكنا نترجم غيرتنا بمراجعة أحوالها واقتراح ما نراه أصلح لها وأنفع. ثم إنك أخي غلب عليك وهم عجيب وهو أنك ضيقت مفهوم العربية حتى فصلت بين مستوياتها التي كانت متعايشة على الدوام، ورأيت الخطر كل الخطر في العامية ليس لسند علمي بل لشعور عاطفي، ولم تلتفت إلى أن المجتمعات العربية أمضت قرونًا تحت الخلافة العثمانية ولغتها العامية إلا من شيء يسير في الكتاتيب ومساجد الحواضر، ولكنها بعيدة عن حياة الناس.
ولو كلفت نفسك الاطلاع على ما في العاميات من معجم لا يحتاج إلى شيء سوى أن يكتب بالطريقة الفصيحة، لو اطلعت على ذلك لأسفت الأسف كله على ضياع مثل هذه الثروة وضياع الفرصة أن يدون ويستفاد منه. إن من الغفلة التعامي عن قوة النسب بين مستويات العربية. ونحن إن دعونا إلى الاستفادة من العامية فإنا ندعو إلى أخذ ما فيها من خير، وفيها خير قد لا تتبينه، ولسنا ندعو إلى جعلها بديلا من الفصيحة فهذا أمر غير معقول ولا يخطر ببال أحد. ولكن من شأن المقاربة بين المستويين أن نعلو بشأن العامية لتكون بمنزلة قريبة من الفصيحة. وانظر أخي إلى من يتحدث أو يكتب تراه يظن نفسه يتحدث أو يكتب كما يفعل القدماء وليس الأمر كذلك، لا لأنه لا يريد بل لأنه لا يستطيع.
وأختم قولي بأنك أخي بالغت في تصوير الأمر. وأدعو الله أن يهديك إلى سواء السبيل وأن يلهمك الصواب في الدعوة إلى ما تريد بالوسيلة الحسنة التي تفتح لك العقول والقلوب.
تقبل تحياتي واسلم.
¥