المسألة الثانية: أن نحويا لغويا هو الخليل -صاحب العين على رَأْي- عند حديثه عن (لولا) ذكر أنّ لها معنيين أحدهما (لو لم يكن)، والثاني (هلاّ) ثم قال "وكل شيء في القرآن فيه (لولا) يفسّر على (هلاّ) غير التي في سورة الصافات (143) {فلولا أنه كان من المسبحين} " أي: فلو لم يكن (العين 8/ 350).
هذه القولة لا تصح بأدنى تأمل واستقراء لمواضع لولا في القرآن، والذي يصل إليه الاستقراء أنّ لولا الامتناعية أو كما قال الخليل التي بمعنى (لو لم يكن) جاءت في أربعة وثلاثين موضعا، تربط فيها لولا بين جملتين اسميه وفعلية، الاسمية هي الشرط، والفعلية هي الجواب الذي قد يكون محذوفا للعلم به كما في بعض الآيات، والجملة الاسمية الأولى تكون من مبتدأ وخبر على أصح الآراء كما أثبتُّه في بحث آخر، والخبر محذوف حسب رأي أكثر النحاة في آيات القرآن كلها، ولكن لبعض النحاة رأي آخر وهم قلة كابن الشجري وابن مالك.
أما المبتدأ فقد جاء اسما ظاهرا غير مَصْدَر في إحدى عشرة آية من مثل {ولولا رهطك لرجمناك} هود:91، وجاء ضميرا منفصلا في آية واحدة {لولا أنتم لكنا مؤمنين} سبأ:31، ومصدرًا صريحًا في عشر آيات مثل {ولولا فضل الله عليكم} البقرة:64، ومصدرًا مؤولا من أنّ وصلتها في آية واحدة {فلولا أنه كان من المسبحين} الصافات:143، ومصدرا مؤولا من أنْ وصلتها في إحدى عشرة آية مثل {لولا أن هدانا الله} الأعراف:43.
أمّا التي بمعنى (هلاّ) وهي التحضيضيّة كما سمّاها بعضهم فقد جاءت في واحد وأربعين موضعا، فأين هذا مما قاله الخليل.
المسألة الثالثة: وفي العين أيضا نرى الخليل يجعل لولا الامتناعيه بمعنى (لو لم يكن)، وهذا ما عبَّر عنه النحويون بالامتناع لوجود؛ ففي مثل: لولا زيدٌ لأتيتك؛ المعنى امتنع إتياني لوجود زيد، ولكن قراءة ما يتعلق بجواب لولا في القرآن تنبئ أن لولا تأتي بمعنى آخر، وهو الوجود للوجود، وذلك في آيات مثل: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد} النور 21، فقد وجد الزكوّ لوجود فضل الله، وهذا المعنى يوجد إذا كانت الجملتان بعد لولا الأولى مثبتة والثانية منفيّة، وتحتمله الآية: {قل ما يعبأ بكم ربّي لولا دعاؤكم} الفرقان 77، والجواب محذوف وعليه دليل وهو قوله {ما يعبأ} استفهاما أكانت (ما) أم نفيا، لأن المعنى: لولا دعاؤكم ما عبأ الله بكم، فهو يعبأ بهم لدعائهم، وتأمل آية الأعراف 43، {وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله}، ذهب بعضهم إلى تقدم جواب لولا وهو {ما كنا لنهتدي} (أبو حيان في النهر المادّ 4/ 299، على هامش البحر المحيط)، وبعضهم قدره بعد لولا والدليل عليه جملة (ما كنا لنهتدي)، فهاتان جملتان مثبتة ومنفية بعد لولا، والمعنى وجود لوجود، والتقدير: (لولا أن هدانا الله ما كنا لنهتدي) (التبيان للعكبري 1/ 569، والبحر 4/ 299).
أما آية القصص 47، {ولولا أن تصيبَهم مصيبةٌ بما قدّمت أيديهم .. } فقد اختلف تقدير الزجاج للجواب عن تقدير ابن عطيّة، وعلى هذا اختلف معنى لولا، فقد قدر الزجاج الجواب: (ما أرسلنا رسولا) فتكون لولا حرف وجود لوجود، وقدره ابن عطية: (لعاجلناهم بما يستحقونه) فتكون لولا حرف امتناع لوجود أو لوجوب، كما هي عبارة بعضهم.
علما أن المعنى الأوّل الذي ذكر الخليل هو الكثير في القرآن، والمعنيان أدركهما سيبويه عندما قال: "وكذلك (لوما ولولا) فهما لابتداء وجواب، فالأوّل سبب ما وقع وما لم يقع" (الكتاب 4/ 235).
وتصل معانيها إلى أربعة معان عند أحد النحويين وهو المالقي (702) في (الرصف: 293 تحقيق الخرّاط)، وهي الامتناع لوجوب، والوجوب لامتناع، والوجوب لوجوب، والامتناع لامتناع، قال: " والصحيح أنّ تفسيرها بحسب الجمل التي تدخل عليها، فإن كانت الجملتان بعدها موجبتين، فهي حرف امتناع لوجوب، نحو قولك: لولا زيد لأحسنت إليك، فالإحسان امتنع لوجود زيد، وإن كانتا منفيّتين، فهي حرف وجوب لامتناع، نحو: لولا عدم قيام زيد لم أحسن إليك، وإن كانتا موجبة ومنفيّة، فهي حرف وجوب لوجوب، نحو: لولا زيد لم أحسن إليك، وإن كانتا منفيّة وموجبة، فهي حرف امتناع لامتناع، نحو: لولا عدم زيد لأحسنت إليك." وربّما كان ما ذكره نتيجة قسمة عقلية، إذ لم يستشهد لهذه المعاني من اللغة، ويحتاج الأمر إلى استقراء لأسلوب لولا الامتناعية في غير القرآن؛ إذ قد عرفنا ما فيه من معاني لولا، ويلحظ أن المالقي اصطفى كلمة الوجوب بدلا من الوجودٍ.
وهناك وقفات أخر في (لولا ولوما) لها وجهة أخرى، وبحثها كان في مكان آخر ممّا كتبت.
ـ[أ. د. أبو أوس الشمسان]ــــــــ[29 - 10 - 2008, 08:39 م]ـ
بحث دقيق ممتع كاشف أن النحاة بشر يجتهدون فيصيبون ويخطئون، وهم على شدة استقصائهم قد تفوتهم الأمور الظاهرة، ثم يأتي من يجادلك إن قلت بقول لم يقولوا به أو فكرة لم يسطروها في كتبهم ويقيم عليك الحجة بأن هذا قول ما كان ليفوت على النحويين.
أخي العزيز بوركت جهودك ووفقك الله إلى كل خير.
¥