وقد جاء في القرآن الكريم: (وَكَأَيِّن مِنْ دابة لا تَحْمِلُ رْزِقَها, اللهُ يَرْزُقُها وَإياكُم وَهُوَ السَّميعُ العَليم) (العنكبوت6) كما قال تعالى: (واللهُ يدعو إلى دارِ السَّلام) (التوبة25) وقال تعالى: (الله يعلم ما تحمل كل أنثى) (الرعد8) وفي الآيات السابقة بني الفعل على الاسم, أو بني الخبر الفعلي على المبتدأ. كما قال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ والأرضَ لَيقَوُلُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيزُ الحكيمُ) (الزخرف9) وقال تعالى: (وقيلَ لِلَّذينَ اتَّقَوا ماذا أنزلَ ربُّكم قالوا خيراً) (النحل 30) وفي هاتين الآيتين بُني الاسم فيهما على الفعل, والتقدير في الثانية: أنزل خيراً. وقال تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللهُ قولَ التي تجادلكَ في زَوْجِها وتَشْتَكي إلى اللهِ واللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إنَّ اللهَ سميعٌ بصيرٌ) (المجادلة 1).
"وإذا قرأنا قوله تعالى (يريدُ اللهُ ليبينَ لكم ويهديكم سُنَنَ الذينَ مِنْ قَبْلكِم ويتوبَ عليكُم والله عليمٌ حكيمٌ * والله يريدُ أن يتوبَ عليكُم ويريدُ الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً * يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً) (النساء 26 - 28) ثم لاحظنا فعل الإرادة ولفظ الجلالة رأينا ترتيب ذلك كما يلي: يريد الله – والله يريد – يريد الله- فإذا بحثنا عن السبب وجدنا تقديم لفظ الجلالة في مورده الثاني إنما كان لوضعه موضع المقارنة مع الذين يتبعون الشهوات, أما في المرة الأولى والثالثة فالاهتمام معلق بالإرادة لا بالمقارنة " (1).
والتقديم والتأخير هنا نابع من الاختيار بين أصلين (2). وليس عدولاً من بنية عميقة إلى بنية سطحية, لأن كليهما أصل.
وهناك فرق في المعنى بين اختيار الجملة الاسمية أو الفعلية. فالفائدة المعنوية أو تغير المعنى ينبع من الاختيار كما ينبع من العدول, وهذا يجيز لنا السؤال: لم بُدئ بالاسم أو بالفعل؟ من ناحية معنوية وليس من ناحية نحوية, لأن ما جاء على أصله من ناحية نحوية لا يسأَل عن علته.
"والذي يبدو أن التقديم في العبارة الثانية جاء لسببين: - أولهما: كسر الوتيرة الواحدة في طريقة الترتيب. وثانيهما: الدلالة في العبارة الثانية على أن الله وحده يريد التوبة, على حين يريد الذين يتبعون الشهوات الميل العظيم, ويعزز هذه الدلالة ما نرى من المقابلة بين إرادة وإرادة.
ويعلل السيرافي عملية بناء الفعل على الاسم أو الاسم على الفعل فيقول:"وجملة الأمر أن الذي حكمه أن يكون مؤخراً, مبني على ما حكمه أن يكون مقدماً, عمل في اللفظ أو لم يعمل, إذا كان أحدهما يحتاج إلى الآخر. وقد ذهب سيبويه إلى أنك إذا قلت لو أن عندنا زيداً لأكرمناه أن التي بعد"لو"مبنية على"لو" وإن كانت غير عاملة فيها, لأن حكم "لو" أن تكون مقدمة على "أنًّ" ولا يستغني عنها " ().
فعلةّ وقوع الفعل والمبتدأ في موقع المبني عليه هي كونهما متقدمين في المعنى, وعلة كون الفاعل والخبر في موقع المبني هي كونهما متأخرين في المعنى, فالمتأخر يبنى على المتقدم إذا كان بينهما علاقة احتياج وعدم استغناء, والمحتاج أو الطالب يتقدم على المطلوب معنوياً بغض النظر عما إذا كان الطالب عاملاً في المطلوب أم لا, فالعلاقة بين الألفاظ علاقة معنوية بالدرجة الأولى قبل أن تكون علاقة عامل بمعمول.
والمباني تترتب بالرتبة (المنزلة) من الخاص إلى العام أصلاً ومن العام إلى الخاص عدولاً)
كماأن المبني عليه والمبني بينهما علاقة معنوية, وأن المبني عليه يحتاج إلى المبني, فيبني المتكلم الفاعل أو الخبر على الفعل أو المبتدأ فتحصل الفائدة, فالسابق يطلب اللاحق, واللاحق ينبني على السابق, كما يلاحظ أن الطلب أو الاحتياج يسير من اليمين إلى اليسار أما البناء فيسير من اليسار إلى اليمين
والمثال الذي ذكره السيرافي " لو أن زيداً عندنا لأكرمناه " يؤكد أن البناء عملية تشمل اللغة بكاملها, فالطالب يحتاج إلىالمطلوب, والمطلوب ينبني على الطالب لأن بينهما علاقة معنوية تقوم على الاحتياج ولا يستغني أحدهما عن الآخر.
¥