ليس وصف المقامات للأندلس فقط هو الذي أضفى عليها قيمة خاصة، بل كذلك وصفها لبلاد المشرق، سواء كانت شبه الجزيرة العربية (نجد، والحجاز، وتهامة، واليمامة) أو العراق والجزيرة وبلاد الفرس (بغداد، وسنجار، وحرّان، والأنبار، والرقة، وواسط، والزّاب، والأهواز، وأصفهان، ومرو، والري) أو مصر وسورية (الاسكندرية، ودمياط، وحلوان، وحلب، وفلسطين) أو الشرق (الهند، والصين، وغزنة). ومن الأمور البارزة بشكل خاص في هذه المقامات هو حب السرقسطي لليمن وتاريخها، كما يُرى من أن أربع مقامات تدور أحداثها في اليمن. وههنا وصف لأعاجيب اليمن: "إنها أرض الكوارث وميدان الحوادث؛ إن روائعها وعجائبها تخدع الخادعين. "وعن شعبها يقول السرقسطي: "بين ظهرانيكم كل أنواع الرجال: الأقوياء والمتواضعون، الأغنياء والفقراء، البله والحكماء، الانفعاليون والمتبلدون. إني بينكم كابن سبيل وأخي قبيلة وعشيرة، بيد أن مصيري فصلني عنهم، واتسعت المسافة بيني وبينهم.
أتيت بأخبار غريبة عني ولسوف أثير الذكي واللا مبالي كليهما". (ورقة 14 آ –ب).
أما مشهد المقامة الخامسة والثلاثين (ورقة 157 ب- 160 ب) فهو في زبيد: "أقمت في زبيد أتاجر بالخيل وبالعبيد، أرفل في ثياب الرخاء، وأستمتع بحلاوة الحياة".
وكانت عدن، بمينائها الناشط الذي يعج بالأنشطة التجارية ويضج بالمسافرين القادمين والراحلين، مكاناً طبيعياً ينجذب إليه بطل السرقسطي؛ وهكذا نجده هناك في المقامة السادسة محفوفاً بجمهرة من المسافرين ممتدحاً روحهم المبدعة وحبهم للحرية داعياً الله أن يمن عليهم بالنجاح ويعيدهم إلى وطنهم سالمين. (ورقة 23 ب). وفي هذه المقامة نجد لأول مرة ذلك الاهتمام بحياة الموانئ والرحلات البحرية الذي يظهر ثانية في المقامة السابعة (ورقة 25 آ –32 آ). وهنا يكون الشيخ قد انتقل إلى ميناء شحر حيث يُرى مُسدياً نصحه للتجار حول السلوك القومي الذي يجب أن يتحلوا به وهم يركبون البحر. إن آفاق هذه المقامة أوسع من آفاق المقامات السابقة، كما يُضمِّن السرقسطي "المقامة العنقاوية" المماثلة والتي تجري أحداثها في الصين، كثيراً من حكايات البحارة.
ويمكننا تقدير أهمية العناصر البحرية هذه إذا ما قرأنا هذه المقامات مقرونة بما يعرضه الرحالة الأندلسيون من وصف للرحلات البحرية وخصوصاً بقصة حي بن يقظان لابن طفيل.
ومن الجدير بالملاحظة أن السرقسطي مشوش بالنسبة لعمان موطن بطله التي يسميها جزءاً من اليمن في المقامة الرابعة والمقامة الثانية عشرة (ورقة 53 ب- 57 ب) التي جرت أحداثها في ظفار البلد التي يهيم بها بطله حباً.
ونجد الشيخ في المقامة الحادية والعشرين (ورقة 93آ – 96 آ) يقيم في البحرين يتحدث في المحتشدين وفي المساجد.
وهناك مقامتان هامتان تصوران معالم الحياة الاجتماعية هما "مقامة الدب" (ورقة 170 ب – 174 آ، والمقامة التاسعة والأربعون (ورقة 208 ب- 213 ب) حيث يكسب الشيخ في الأول معاشه بعروض لدب راقص، وينتحل في الثانية شخصية طبيب.
ويخصص السرقسطي مقامتين من مقاماته للنقد الأدبي، هما المقامة الثلاثون ذات العنوان "الشعراء" والخمسون ذات العنوان "الشعر والنثر". وتشكل هاتان المقامتان إضافة هامة لمصادرنا الشحيحة لتاريخ النقد الأدبي في هذه الفترة، خصوصاً أنهما تحتلان وجهات نظر المحدثين الذين يتزعمهم السرقسطي، كما يساعداننا على تقدير مدى أثر هذه المدرسة في الشعر والنثر عموماً، وأثر أبي العلاء المعري خصوصاً.
ويستعمل السرقسطي في مقاماته صيغة صارمة من السجع (أشد صرامة من سجع المعري) من غير أن يحدث انطباعاً لدى القارئ بالتكلف أو المبالغة.
وباستثناء المقامتين الثانية والثلاثين والأربعين، فإن السرقسطي يتجنب عادة الأسلوب المعقد والمبهم الذي يفضله الحريري، إذ أن اختياره لكلماته وعباراته أقل تكلفاً، وزخرفته البيانية أقل تنميقاً. ويبدو أنّه نخل الأعمال الأدبية واحتفظ لنفسه بالصور البيانية الأكثر جمالاً وسحراً. على أية حال أجدني عاجزاً عن إيفاء هذه المقامات حقها في مقالة موجزة؛ وآمل أن تتاح فرصة أخرى لإلقاء ضوء على المقامة الأندلسية ..
الهوامش
¥