ـ[سلمان بن أبي بكر]ــــــــ[18 - 05 - 2009, 01:41 ص]ـ
فلسفة أبي العتاهية الشعرية
محمد صادق*
من هو أبو العتاهية:
أبو العتاهية هو إسماعيل بن القاسم بي سويد العيني، ولد ونشأ قرب الكوفة، وسكن بغداد،
كان في بدء أمره يبيع الجِرَار، ثم اتصل بالخلفاء - خاصة الرشيد -؛ وعلت مكانته،
لكنه زهد في الدنيا، وابتعد عن منادمة الرشيد، وكان قبل ذلك لا يفارقه.
وكتب شعراً رقيقاً في ندمه على ما فرط من أمره قال فيه:
إلهي لا تعذبني فإني =مقر بالذي قد كان منّي
فمالي حيلة إلاّ رجائي = لعفوك إن عفوت وحسن ظني
وكم من زلة لي في البرايا =وأنت عليّ ذو فضل ومنّ
إذا فكّرت في قدمي عليها =عضضت أناملي وقرعت سني
يظن الناس بي خيرا وإنّي =لشرّ النّاس إن لم تعف عنّي
أبو العتاهية وأهل المجون:
أشاع أهل المجون أن أبا العتاهية زنديق، وقد حدَّث الخليل النوشاني قائلاً: أتانا أبو العتاهية إلى منزلنا،
فقال زعم الناس أنّني زنديق، والله ما ديني إلاّ التوحيد، فقلنا: قل شيئا نتحدث به عنك، فقال:
ألاّ إنّنا كلّنا بائد =وأي بني آدمٍ خالد
وبدؤهمُ كان من ربّهم =وكلّ إلى ربّه عائد
فيا عجبا! كيف يعصى الإله؟! =أم كيف يجحده الجاحد؟!
ولله في كلّ تحريكة =علينا وتسكينة شاهد
وفي كلّ شيء له آية =تدل على أنّه واحد
بعد أن اعتزل أبو العتاهية الخلفاء اعتزل أغراض الشعر الأخرى كذلك؛ فلم يكتب إلاَّ في الزهد،
وقد رُوي أن الرّشيد أمره ذات مرّة أن يقول شعرا في الغزل لكنه امتنع،
فضربه الرشيد وحبسه وحلف ألا يطلق سراحه إلى أن يقول شيئا في الغزل،
ووكّل به أحدا يكتب إليه ما سمع، فقال أبو العتاهية:
أما والله إنّ الظلم لؤم =ومازال المسيء هو الظلوم
إلى ديّان يوم الدين نمضي =وعند الله تجتمع الخصوم
قيل: فلما بلغ ذلك الرشيد بكى وأمر بإخلاء سبيله.
فسلفته الشعرية
من أسس الموعظة الشعرية عند أبي العتاهية أنّه يحقر شأن الدنيا؛ فهي خداعة لا تدوم على حال؛
فما هي إلا زيف وخداع، والعجب أن الناس يغفلون عن الوعد المضروب والأجل المحتوم:
أنلهو وأيامنا تذهب =ونلعب والموت لا يلعب
والغريب أنّهم يصرفون كل همهم في الإعداد لدار هم عنها راحلون، فيشيّّّدون القصور،
ويحشدون فيها أنواع الزينة، ويهيئون لها الفرش، وهم يعلمون أنّهم مفارقوها:
يا بَانِيَ الدّارِ المعِدََّ لها =ماذا عمِلتَ لدَاِركَ الأخرىَ
ومُمَهِّدَ الفُرْش الوثيرة لا =تُغْفِلْ فِرَاش الرَّقدة الكبرى
فعليهم أن يحذروا الموت، وما يعقبه من مشاهد القيامة وأهوالها، ثم القرار إما في جنة أو نار:
فلو كان هول الموت لا شيء بعده =لهان علينا الخطب واحتقر الأمر
لكنّه حشر ونشر وجنة =ونار وما قد يستطيل به الخبر
الأخلاق في شعر أبي العتاهية
إن أبا العتاهية بعد تطليقه الدنيا صار أقرب إلى شعراء الأخلاق والحكمة، وفي هذا السياق يقول الأستاذ محمد خلف الله:
(إنّ شعر أبي العتاهية ذا الصبغة التعليمية أخذ مكانة في تربية الذوق الإسلامي وفي تهذيب الناشئين؛
فهو يحض على التخلق بأشرف العادات، والبذل والإنفاق في وجوه الصدقات،
ويدعو الإنسان إلى أن يراعي حق الجوار، وحرمة الذمم، وأن يخفض جناحه لأخيه الإنسان ..
اسمع له وهو ينصح ابنه:
اُسْلُكْ بنيّ مناهج السادات =وتخلّقن بأشرف العادات
لا تلهينّك عن معادك لذة =تفنى وتورث دائم الحسرات
وإذا اتّسعت برزق ربك =فاجعلن منه الأجلّ لأوجه الصدقات
وارع الجوار لأهله متبرعا =بقضاء ما طلبوا من الحاجات
واخفض جناحك إن منحت إمارة =وارغب بنفسك عن ردى اللذات
وفي موضع آخر ينصحه بعدم الغيبة، وهي خلة قبيحة مذمومة؛
إذ شر الأخِلاَّء من يُظهر لك المودة إظهار الصديق الودود، والمخلص الغيور،
فإذا توارى عنك نهش لحمك، وبرى عرضك مثل بري القلم:
وشر الأخلاء من لم يزل =يعاتب طورا، وطورا يذم
يريك النصيحة عند اللقاء = ويبريك في السر بري القلم
كما أن أبا العتاهية يوصي بإحسان معاملة الآخرين، والصبر عليهم، وقبولهم على علاَّتهم:
إنّ في صحة الإخاء من الناس =وفي صحة الوفاء لقلة
فألبس الناس ما استطعت على =الصبر وإلا لم تستقم لك خلّة
عش وحيدا إن كنت لا تقبل العذر =وإن كنت لا تجاوز زلّة
وفي موضع آخر يحذر من خطورة الحسد؛ فيقول:
¥