فبكَّى بناتي شَجْوَهُنَّ وزوجتي****والأقربونَ إليَّ ثم تصدَّعُوا
وتُرِكْتُ في غبراءَ يُكْرَهُ وِرْدُهَا****تَسْفِي عليَّ الريحُ حِين أُودَّعُ
فإذا مضيتُ إلى سبيلي فابعثُوا****رجلًا له قلبٌ حديدٌ أصْمَعُ
إنَّ الحوادثَ يَخْتَرِمْنَ وإنما****عُمْرُ الفَتى في أهلهِ مُسْتَودَعُ
•رجل آخر يرثي نفسه:
ذكر الواقدي أن ضرار الأزور -رضي الله عنه- أُسر في معركة اليمامة أسرته الروم, وقال شعرًا يرثي به نفسه (7) , والأرجح أنه ليس ضرار الأزور فقد ذكر أهل العلم (8) أنه جُرح يوم اليمامة واستشهد وقيل أنه عوفي من جروحه, واشترك في معركة اليرموك وكان ممن بايع عكرمة بن أبي جهل-رضي الله عنه- على الموت, وكانوا أربعمائة فاستشهد وهو يفتك بالروم, ولم يذكروا أنه أُسر, وليس هذا محل بحث في هذا الموضوع, ولكن أردنا أن نبيِّن للقارىء أن قائل هذه الأبيات ليس ضرار بن الأزور وإنما قد يكون رجلًا من المسلمين اسمه ضرار أو ربما نُسبت له.
فقد قال وهو في الأسر يبكي نفسه, وقد انقطع أمله في الحياة وشارف على الموت, يبعث هذه الأبيات كرسالة إلى أهله وذويه: (9)
حَمائِمُ نَجْدٍ بلِّغي قولَ شَائِقٍ****إلى عسكرِ الإسلامِ والسادةِ الغُرِّ
وقولي ضرارٌ في القيودِ مُكبَّلٌ****بعيدٌ عنِ الأوطانِ في بَلدٍ وَعْرِ
حمائمُ نَجدٍ اسمعي قولَ مُفْرَدٍ****غَريبٍ كئيبٍ وهو في ذِلَّةِ الأَسْرِ
وإنْ سألتْ عنِّي الأحبةُ خبِّري****بأنَّ دُمُوعي كالسحابِ وكَالقَطْرِ
وقولي لهم إنِّي أسيرٌ مُقَيَّدٌ****لهُ عِلَّةٌ بينَ الجَوانحِ والصَدْرِ
وفي خدِّهِ خَالٌ مَحَتْهُ مَدَامعٌ****على فَقْدِ أوطانٍ وكَسرٍ بلا جَبْرِ
مضَى سَائرًا يبغي الجهادَ تَطَوُّعًا****فوافاهُ أبناءُ اللئامِ عَلى غَدْرِ
ألا فَادْفِنَاني باركَ اللهُ فِيكُمَا****ألا واكْتُبَا هذا الغريب على قَبري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الأغاني للأصفهاني (16/ 44 - 50). وانظر السيرة النبوية لابن هشام (2/ 350 - 351) والبداية والنهاية لابن كثير (5/ 48 - 49).
(2) ديوان لبيد بن ربيعة 73 - 74
(3) أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير (2/ 148 - 150) , والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر (5/ 267 - 268) باختلاف,
والخبر رواه الإمام أحمد في المسند (15/ 230) وصحح إسناده أحمد شاكر رحمه الله.
(4) ذكر محققا المفضليات (أحمد شاكر وعبد السلام هارون) ترجمة عبدة الطيب في الحاشية نقلًا عن تاريخ الطبري (4/ 43, 115)
(5) المفضليات للمفضل الضبي 148.
(6) شرجع: خشب يشد بعضه إلى بعض كالسرير يحمل عليه الموتى.
(7) فتوح الشام للواقدي (2/ 232).
(8) ذكر ذلك ابن الأثير في أسد الغابة (3/ 53) , وابن كثير في البداية والنهاية (7/ 7 - 8) , وابن حجر في الإصابة (3/ 391 - 392).
(9) فتوح الشام للواقدي (1/ 190).
ـ[أديب طيء]ــــــــ[17 - 10 - 2010, 05:25 م]ـ
رثاء النفس في عصر بني أمية:
لقد مر معنا رثاء النفس في الشعر الجاهلي, ورثاء النفس في عصر صدر الإسلام وذكرنا نماذج منها, أما في هذا الموضوع فسنذكر أهم النماذج في عصر بني أمية, ومن هذه النماذج قصيدة يعرفها القاصي والداني, استمتع بها كثير من الناس, تعتبر من عيون الرثاء بل هي عيناه الجميلتان, فمن حقها علينا أن نبدأ بها لأنها تاج المراثي, بريقها يسر الناظرين, ويُبهج المشتاقين, وهي ثالثة الأثافي (1) , بدونها لا تتَّزن لوعة القلب, ولا تستقر سفينة الإحساس, فسنبدأ بها لتقود ركب المراثي, ويصبح الشعر أمام قوتها جاثي, إنها قصيدة مالك بن الريب في رثاء نفسه, فإلى القصيدة وخبرها, ومن ثمَّ نذكر باقي الركب بعدها:
- مالك بن الريب المازني وخبر موته ورثائه لنفسه:
لمَّا ولَّى أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان سعيد بن عثمان بن عفان خراسان سار فيمن معه فأخذ طريقه إلى فارس, وهو في طريقه لقي مالك, وكان مالك قاطع طريق, فاستصلحه واصطحبه معه إلى خراسان, وجاهد مع سعيد, واختلفت الروايات في قصة موته, فذكر أبو علي القالي في أماليه (2) أنه مات بخراسان بعدما غزا مع سعيد واستشهد في الغزو, وذكر ابن عبد ربه رواية أخرى (3) وهي أنه كان مع سعيد ببعض الطريق ولما أراد أن يلبس خُفّه فإذا بأفعى في داخلها فلستعه, فلما أحس بالموت قال قصيدته, ومهما اختلفت الروايات فالثابت هو أنه رثى نفسه بهذه
¥