ثانيا: لطائف ونكت:
1ــ استخدام العقاد الفعل (يلملم) استخدام موفق، فالفعل يلملم لا يعني الجمع فحسب، وإنما جمع ما كان متفرقا شذر مذر، وكأني بالريش قد صار متفرقة قوته، فيحاول العقاب أن يستجمع تلك القوى المتفرقة.
2ــ استعارة العقاد لفظة حدباء لوصف قوادم الريش ــ جاءت ثرية ثراء فاحشا،
فلفظة حدباء استصحبتْ معها جميع المعاني التي ثبتت لها مجازا وحقيقة لتلصقها كلها بالقدامى وتثبتها لها، ولكن ما هي تلك المعاني:
رجل أحدب >>>>>>>>>>>عاهة معيقة
أرض حدباء >>>>>>>>>>> غير مستقيمة وبها نتوء
ناقة حدباء >>>>>>>> >>>الهزال والضعف
حملوه على آلة حدباء (النعش) >>>>ممقوتة بغيضة
سنة حدباء >>>>>>>>>>> الشدة والجفاف
جاء حدب السيل بالغثاء>>>>>> عدم الانتفاع
أمر أحدب >>>>>>>>>>> المشقة
إذن فقوادم ريش العقاب:
مصدر إعاقة ــ فيها جفاف ــ غير منتفع بها فهي لا تساعد على طيران ــ هزيلة ضعيفة ـــ ليست مستقيمة القدّ وإنما فيها نتوء ــ يبغضها العقاب لضعفها وهزالها.
3ــ لماذا اختار العقادُ التعبير بقدامى الريش دون غيره من أجزاء الريش؟ لماذا لم يقل حدباء الريش مثلا دون تعيين لموضع؟
العرب تقول في أمثالها:"ليس القدامى كالخوافي"، والخوافي ما خُفي من الريش خلف القدامى، وهو مثل يضرب عند التفريق بين الشريف المبجل وغيره، ويقول شاعرهم:
ليس قدامى النسر كالخوافي ... ولا توالي الخيل كالهوادي
فأشرف الريش وأقواه ومُقدَّمه في الطيران: القدامى، وهنا تظهر بلاغة العقاد: فإذا كانت أقوى منطقة من الريش قد صارت حدباء ــ فما بالكم بباقي الريش!!
4ــ استخدام العقاد صيغة الجمع للرمس له دلالاته المؤثرة على النص، فالأضالع ليس لها قبر واحد، وإنما لها أكثر من قبر، وكأنه يقول لنا إن أسباب تهشم الضلوع كثيرة، كذلك يدلنا على كثرة حدوث التهشم.
5ـ لكل من (ضلع) و (رمس) جموع عدة، فالضلع يجمع على: أضلع وضلوع أضالع وأضلاع، وكذلك الرمس يجمع على: أرماس ورموس.
وهنا السؤال: لماذا اختار العقاد الجمع أضالع وأرماس من بين جموعهما المختلفة؟
أرماس جمع قلة بينما أضالع جمع كثرة، وكأن العقاد يريد أن يخبرنا بأن الريش المشبه بالأضالع كثير ولكنه كغثاء السيل لا ينفع، أما الأرماس فرغم قلتها فإنها تؤثر وتهشم، فالعقاب لديه ريش كثير بينما القبور (أسباب الضعف) قليلة، ولكن الأمر ليس بالكثرة وإنما بالقوة؛ فتهشمت الأضالع رغم كثرتها، وهشمتْها القبور رغم قلتها.
6ــ تفضيل العقادُ للفعل (تتهشم) دون غيره ــ جاء بديعا ليس له مثيل، فالتهشيم يكون للشيء اليابس المتحجر، والقدامى الحدباء هي كذلك بل والأضالع أيضا، فناسب الفعل المشبه والمشبه به، فلله درك يا عقاد!
ولم يبدع العقاد في اختيار هذا الفعل لمعناه فحسب، وإنما لصيغته أيضا، التي تدل على مطاوعة الفاعل للفعل واستسلامه له، وتدل كذلك على تدرج هذا الفعل وحدوثه مرة بعد مرة، فكأن الريش مستسلم للتهشيم، وكأن الريش يتسلى عليه في هوادة وتدرج.
ثالثا: الصورة في البيت:
شبه العقادُ لململة العقاب ريشه طلبا للطير ــ بالأضالع التي تتهشم في القبور، وهي صورة مبتكرة من خيال شاعر لا ينضب على كثرة الشعر.
ولنبدأ أولا بالتمعن في المشبه به حتى إذا انتهينا منه ربطناه بالمشبه وخرجنا بالصورة كاملة.
تخيلوا معي تلك الضلوع التي كانت مصدرَ قوة للإنسان وهي الآن في قبرها تتهشم، وتهشم الضلوع في القبور يكون بلا صوت؛ فالدود ينخر فيها على هوادة وتؤدة بلا رحمة أو مجير، يتسلى بها نهارا آكلا، ويسمر بها ليلا لاهيا، وليس هناك شيء يمنعه من عروسه وهديّه، بل والضلوع مستسلمة في هوان وذلة.
فما أشبه هذه الصورة التي ينخر فيها الدودُ الأضالع في أرماسها ــ بالحدب والجفاف الذي بدأ يأكل قوادم الريش وهي لا تستطيع أن تدرأ أو تدافع عن نفسها وهو أكلها ومهشمها حينا بعد حين.
رابعا: العاطفة في البيت:
يجب علينا أولا أن نتذكر حالة العقاب في البيت السابق وعاطفته، وها هي:
"بين تلك النظرة المغتصبة الهازئة من الصرصور وهذه الأصوات الشامتة الساخرة من القطا ــ يرقد عقاب عجوز ترقرت عينه بالدموع شفقة ًعلى نفسه وما حل بها، وشعورا بالقهر من أضعف الكائنات شأنا وحجما (الصرصور والقطا)، فتأخذه الحمية بالعزة والأنفة، فيشعر بحرارة الدم في عروقه وبقوة اندفاعه فـ ... "
إذن اندفعت الدماء تشق طريقها نحو قلب العقاب، وهنا يصل العقاب إلى مرحلة الغليان، فيقرر أن يلقي بتبعات الفشل في الهم جانبا ويبدأ في الطيران، القوة القلبية شديدة تدفعه دفعا فيبدأ في استجماع قواه ويضم جناحيه اختبارا لها ولقدرتها على الطيران ولكنه يجدها يابسة جافة كالضلوع المتهشمة، ولكنه يمضي، فهل سينجح أو لا؟ هذا ما سنعرفه بإذن الله في البيت القادم ...
¥