وهبوّا الى الاصلاح فالله كافلٌ ** لمن هبّ للاصلاح حسن مئال
ويبدو من خلال هذه القصيدة أن الشاعر قد دخل الحياة العامة، بعد عودته من تونس مباشرة، لكنه سرعان مااصطدم بالواقع السّيء الذي يتخبط فيه شعبه، ولكونه لم يزل بعد طريّ العود، غضّ التجربة، ولم يكن يملك الوسائل التي تمكنه من المقاومة الصلبة، فقد تراجع الى الخلف وأصيب بتوتر نفسي دفعه الى العكوف على نفسه يتأملها ويبحث عن سرّ الحقيقة في أغوارها، وساعد على نمو بذور تلك النزعة الانطوائية التي شبّ عليها فتبّرم من الدّهر وهو في ريعان الشباب، يعبر عن ذلك بقوله:
سئمت على شرخ الشباب حياتي ** فحرتُ ولم أملك عليّ ثباتي
أرى حظّ أرذال النفوس مواتياً ** وحظّ كريم النّفس غير مواتي
فأوجس في نفسي من الدّهر خيفة ** لعلمي بأن الدهر ذو غمرات
أرى الكون قرآنا من الله منزلاً ** على الروح والأحداث آي عظات
وأقرأ من آي الشقاوة أسطراً ** على صفحات الكون مرتسمات
ولايمكن أن نرجع هذا السلوك الى الفشل، بل يرجع الى إحساسه العميق بمأساة وطنه (2).
وتجدر الاشارة الى أنّ نقول أنه لم يعثر في ديوانه على أكثر من أربع قصائد ومقطوعة واحدة، وذلك كلّ مايمثل حصيلة ما أنتجه أثناء الثورة المجيدة إلاّ أن هناك من يذكر أن للشاعر قصيدتين فقط، وهذا لايعني أنه لم يكن يكتب شعراً والدليل على هذا قوله: (كنت أكتب وأكتم ما أكتب).
ويمكن أن يكون ماكتبه يومئذ قد أتلف أو حرق أثناء بعض الحملات الارهابية التفتيشية التي كان المحتلون يشنونها على بيوت المواطنين ومحلاتهم، يقول الشاعر في هذا الصدد: (كنت قد نظمت أثناء الثورة بعض الشعر، وهو قليل لكنه قد ضاع منّي بسبب ظروف التحري التي كناّ نخضع لها في أغلب الأوقات).
1 - محمد العيد آل خليفة: دراسة تحليلية لحياته-ص49 - 50 - 51 (بتصرف).
2 - السابق-ص53 (بتصرف).
أما بعد الاستقلال وبعدما أصبح حلم الشاعر حقيقة (المتمثل في الاستقلال) خرج من أسره تغمره الفرحة وتهزه النشوة وتوفرت له حوافز القول ودوافع الإنشاء، مضى يغني للحرية بعد صمتٍ طويل، غناءا أطرب الأسماع وهزّ القلوب، فظنّ أولئك الذين حركتهم تلك الألحان الصادقة أنّ الشاعر قد استعاد سيطرته على الموقف وملك زمام أمره وأنه سيمضي على هذا الطريق بهذه القوة والحرارة نفسها التي عهدت في شعره.
ولكن الحقيقة كانت غير ما كان يفكر فيه هؤلاء، ذلك أنه ما كان من الشاعر (1).
في هذه السنوات الأولى من الاستقلال إلاّ فيضا وجدانيا لما يغمر قلبه من مشاعر الفرحة وهزّ الوجدان فكانت تلك الروائع استجابة لهذه الأحاسيس الحارة فقط لا أكثر، فعاد الى العزلة والصمت وألوان العبادة والتصوف من جديد (2).
مواضيع وأغراض شعره:
إنّ مضامين شعره تتركز حول محاور أساسية، يمكن القول أنهاّ أربعة لايكاد الشاعر يغادرها إلاّ ليعمقها ويمكن لها وهي: (الاسلام والعروبة، الوطن والانسانية).
إنّ الاسلام هو الركيزة الأساسية التي تقوم عليها الأمة وبه تحي وتستمر فالتاريخ يكشف لنا على أنّ الكثير من الأمم قد آلت الى الزوال بعدما حرّفت عقيدتها، لهذا أخذ محمد العيد على عاتقه مهمة الدفاع عن العقيدة ومبادئ الاسلام داعيا الشباب للتمسك بالدين باعتباره الطريق الوحيد للنجاة والنجاح يقول:
نتمنى لك الثبات على الرّ ** شد وما أنت عندنا مسترابُ
نتمنى بالدين أن تتحلىّ ** من تحلىّ بدينه لايعابُ
إنماّ الدين لليوث عرينّ ** لا تغرنك بالعواء الذئابُ
إنماّ الدين في المبادئ رأس ** المجد منها وغيره أذنابُ
من هذه الأبيات يظهر لنا ان الشاعر متشبع بالروح الدينية والتقى والورع يحب الخير للجميع وينصح الشباب للتمسك بالدين، والحفاظ على العقيدة لأنها حبل إعتصامه وقوة وحدته وعزّته.
أماّ العروبة في نظر شاعرنا هي أنّ كلّ من تكلم العربية ودافع عنها فهو عربي يتمتع بكامل عروبته، وهو بهذا يؤكد معنى العروبة الحقيقي دون تعصب لها كعرق، وإنماّ ينظر اليها كمعيار للحضارة التي سهلت الوحدة بين أبناء لغة الضاد، ولهذا فشاعرنا يهتم باللغة لأنها تمثل بالنسبة اليه أحد المقومات الهامة التي من شأنها الربط بين أبناء العروبة فقد نوه لها انطلاقاً من أصالتها وكونها وعاءا حوى ماضي الأمة التي تشترك في المصير (3)،
¥