ولا يبدو مقنعاً تسويغ أبي هلال لورود الضرورة عند القدامى. وهو إلى عدم إقناعه فيه اتهام خفي لذوقهم الشعري. ولا يبعد ابن رشيق عن هذا الاتجاه فيرى أن"لاخير في الضرورة، غير أنّ بعضها أسهل من بعض، ومنها ما يسمع عن العرب ولا يعمل به لأنهم أتوا به على جبلتهم. والمولَّد المحدث قد عَرف أنه عيب. ودخوله في العيب يُلزمه إياه. [12]
وليس ثمة حاجة إلى إيراد مزيد من النصوص، إذ يبدو أن هذه النظرة إلى"الضرورة الشعرية" كانت شائعة قديماً سواء عند أهل العروض أو عند أهل اللغة أو النحو أو البلاغة، فالشعر عندهم موضع اضطرار، أو أسير الوزن. والوفاء للوزن قد يقتضي من الشاعر أن ينحرف بالكلمة أو بالتركيب عما تقتضيه قواعد اللغة من نحو وصرف. والنتيجة التي يؤدي هذا الفهم إليها هي أن الوزن قيد يحد من حرية الشاعر. ولكنها نتيجة تلحق بالوزن وصمة ينبغي ألاّ تكون له. وكان من الممكن أن ينظر إلى هذه التي دعوها "ضرورة" على أنها سمة من سمات اللغة الشعرية. ولكنهم ما فعلوا ذلك، فكان هذا الوصف بالضرورة" وصمة وصموا بها الشعر العربي عن حسن نية منهم" [13]
ولقد حاول بعض المحدثين أن ينأى "بالضرورة" عما حُمّلت به، فرأى كمال بشر -مثلاً- أنها"ليست من باب الخطأ، كما يظن بعض الناس. [وإنما هي] تجيء على قاعدة جزئية تختلف مع القاعدة التي سموها قاعدة عامة، أو تجيء على وفاق لهجة من اللهجات، أو تجيء على وفاق مستوى لغوي معين ... " [14]
ويفسر أحمد مختار عمر لجوء النحاة إلى الوصف بـ"الضرورة" علىأنه مخرج لهم حين تعجزهم الحيل عن إيجاد علة منطقية لتفسيرها، "فأطلقوها دون قيد، لتكون سيفاً مصلتا وسلاحاً يشهرونه في وجه كل بيت يخالف قواعدهم ويعجزون عن تخريجه، فيجدون المخلص في هذا الوصف السهل يلقونه دون نظر أو تفكير" [15]
ولكنّ هذا القول لا يخلو من حيف، فنحن نرى أن النحاة ما انفكوا عن النظر والتفكير، بيد أن المعيارية هي التي غلبت عليهم، وهي التي حرصوا عليها، فكان الوصف بالضرورة من مظاهر هذه المعيارية.
ومهما يكن من أمر هذه المعيارية فإن النظرة إلى الضرورة الشعرية لم تكن على نحو واحد؛ فقد يكفي أن نقرأ للخليل بن أحمد كلاماً يلامس فيه ما ينبغي أن يتسم به الشاعر من حرية وامتياز، إذ يقول: "والشعراء أمراء الكلام يصرفونه أنى شاؤوا، ويجوز لهم مالا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده ... ومد المقصور وقصر المددود، والجمع بين لغاته، والتفريق بين صفاته، واستخراج ما كلّت الألسن عن وصفه ونعته، والأذهان عن فهمه وإيضاحه، فيقرّبون البعيد ويبعّدون القريب ويُحتج بهم ولا يحتج عليهم ويصورون الباطل في صورة الحق، والحقّ في صورة الباطل" [16]
ويعلّق حازم على هذا بالقول: "فلأجل ما أشار إليه الخليل رحمه الله من بعد غايات الشعراء وامتداد آمادهم في معرفة الكلام واتساع مجالهم في جميع ذلك، يحتاج أن يحتال في تخريج كلامهم على وجوه من الصحة، فإنهم قلما يخفى عليهم ما يظهر لغيرهم، فليسوا يقولون شيئاً إلا وله وجه، فلذلك يجب تأوُّل كلامهم على الصحة، والتوقف عن تخطئتهم فيما ليس يلوح له وجه، وليس ينبغي أن يعترض عليهم في أقاويلهم إلا مَن تُزاحم رتبتُه في حسن تأليف الكلام وإبداع النظام رتبتَهم" [17]
والحق أن كلام الخليل هذا فريد في بابه، وكان منتظراً له أن يتكرّر بقوة أكبر عند تلميذه سيبويه، ولكن هذه القوة لم تحدث. وعلى الرغم من ذلك فإن سيبويه قد عقد للضرورة باباً سمّاه "باب ما يحتمل الشعر" [18]
والذي يمكن استخلاصه من كلام سيبويه هوأنه أدرك ان للشعر لغة خاصة به يقع فيها الذي لا يقع في الكلام العادي، ويقول: "اعلم أنه يجوز في الشعر مالا يجوز في الكلام من صرف مالا ينصرف، ويشبهونه بما ينصرف من الأسماء لأنها أسماء كما أنها أسماء. وحذف مالا يحذف، ويشبهونه بما قد حذف واستعمل محذوفاً" [19] ثم قال بعد أن أورد جملاً مما يجوز في الشعر دون الكلام: "ليس شيء يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجهاً " [20]. والظاهر من هذا أن سيبويه يقر بوقوع الضرورة، ولكنه يشير إلى إمكان تسويغها على وجه من الصواب؛ أي أن سيبويه يجهد في ألاّ يُخَطَّأ الشاعر. فإذا تقدمنا في الزمن قليلاً وجدنا ابن قتيبة يُضيِّق ما رآه الخليل واسعاً، فتراه يقول: "وقد يضطر الشاعر فيقصُر الممدود، وليس له أن
¥