يمد المقصور. وقد يضطر فيصرف غير المصروف، وقبيح ألاّ يصرف المصروف ... وأما ترك الهمز من المهموز فكثير واسع لا عيب فيه على الشاعر. والذي لا يجوز أن يهمز غير المهموز:. [21]
وهكذا اختصر ابن قتيبة مجال الحرية إلى النصف ممّا كان عند الخليل. وتبقى الخشية قائمة من مثل هذا الاتجاه العام نحو التضييق على الشاعر، والتقعيد للغة الشعرية.
وعلى الرغم مّما يمكن أن نجده من سطوة هذا التضييق عند بعض اللغويين والنقاد فإن ذلك لا يعني أن كل النقاد أخذوا بمثل هذا التضييق أو ساروا في ركبه، ولذلك فلسنا نوافق مصطفى ناصف في تعميمه الجازم حين قال: "فالمخالفات النحوية اعتبرت على أيدي النقاد جميعاً هفوات، ذلك لأن الشعر ينبغي ألا يخرج على حدود المستوى الأول أو الصورة الوهمية السابقة، ومن أجل ذلك تعقبوا ما سمّوه سقطات المتنبي وسقطات الجاهليين" [22]؛ لا نوافقه، لأنا سنرى وشيكا، إضافة إلى ما رأينا عند الخليل، أن عدداً من العلماء القدامى فهموا الضرورة على غير ما يوحي به اسمها؛ أي على أنّ استعمالها لايكون اضطرارا دائماً وإنما هي تأتي في أحايين كثيرة على نحو اختياري حرّ مقصود في ذاته؛ فقد ورد التعريف بالضرورة على أنها "ما وقع في الشعر دون النثر، سواء كان للشاعر عنه مندوحة، أم لا" [23]؛
أي أن الشاعر إذا وقع فيما يسمى بالضرورة وكانت له عنها مندوحة فهذا يعني أنه يقصد إليها قصدا، وأن له من ورائها غاية فنية أو غير فنية.
ويبدو للباحث أن ما جاء به ابن جني في أمر الضرورة كان ذا أهمية بالغة. وعلى الرغم مّما قد يبدو فيه من عدم اتساق، فإن خلاصة كلامه تؤدي به إلى أن يُسلَك ضمن هذا الاتجاه الذي يمثل التعريف الآنف أحسن تمثيل.
يرى ابن جني أن "الشعر موضع اضطرار، وموقف اعتذار، وكثيراً ما تُحرّف فيه الكلم عن أبنيته، وتحال فيه المثل عن أوضاع صيغها لأجله" [24] وهكذا فإن "عطية" تصير "عطاء" في قول الشاعر:
أبوك عطاء ألأم الناس كلهم
فقبّح من فحل وقبِّحتَ من نجل
وواضح أن ابن جني ههنا يميل إلى اعتبار الشعر موضع اضطرار. فأما سبب الاضطرار فلعله من دون شك الوزن وإن لم يصرّح بذلك هنا. ويكاد ابن جني في هذا النص يكرر ما رأيناه عند سيبويه؛ فهو مع ذهابه إلى أن الشعر موضع اضطرار يرى إمكانية الاعتذار. ولعل من الاعتذار أن تُحمل الضرورة على وجه من الصواب مثلما ذهب سيبويه.
على أن لابن جني رأياً آخر في الضرورة يذهب فيه إلى أن العرب تركبَ الضرورة مع قدرتها على تركها، وهي " تفعل ذلك تأنيساً لك بإجازة الوجه الأضعف لتصح به طريقك، ويرحُب به خناقك إذا لم تجد وجها غيره، فنقول: إذ أجازوا نحو هذا ومنه بدّ وعنه مندوحة، فما ظنك بهم إذا لم يجدوا منه بدلا، ولا عنه معدلا، ألا تراهم كيف يدخلون تحت قبح الضرورة مع قدرتهم على تركها؛ ليُعِدّوها لوقت الحاجة؛إليها [25]، ثم يستشهد على ذلك بجملة أبيات من الشعر يعلّق بعد كل واحد منها بأن الوزن ليس هو ما ألجأ الشاعر إلى الضرورة؛ وإنما كان ذلك منه رغبة في الاعتياد عليها [26] حتى يكون وقعها عند ارتكابها اضطراراً أخف على الناس وطأة مّما لو لم يعتادوا سماعها.
ويذهب ابن جني إلى أبعد من ذلك حين يرى أن مرتكب الضرورة يرتكبها لا عن ضعف وعجز، وإنما عن قوة طبع وفيض، ويقول: "فمتى رأيت الشاعر قد ارتكب مثل هذه الضرورات على قبحها، وانخراق الأصول بها، فاعلم أن ذلك على ما جَشِمه منه، وإن دل من وجه على جوره وتعسفه، فإنه من وجه آخر مؤذن بصياله، وتخمطه [أي تكبره]، وليس بقاطع دليل على ضعف لغته، ولا قصوره عن اختيار الوجه الناطق بفصاحته، بل مَثَله في ذلك عندي مثل مُجري الجَمُوح بلا لجام، ووارد الحرب الضروس حاسراً من غير احتشام. فهو وإن كان ملوما في عنفه وتهالكه، فإنه مشهود له بشجاعته، وفيض مُنَّتِه؛ ألا تراه لا يجهل أن لو تكفر في سلاحه، أو اعتصم بلجام جواده لكان أقرب إلى النجاة، وأبعد عن المَلْحاة لكنه جشِم ما جشِمه على علمه بما يعقب اقتحام مثله، إدلالا بقوة طبعه, ودلالة على شهامة نفسه" [27] وإذن فإنما شأن الشاعر في ارتكاب الضرورة اختياراً شأنُ المغامر في ركوبه المخاطر، فهو، إذلا يبالي بالمخاطر، فلأنه يحصل على لذة مضاعفة تنسيه الخطر. ولعل اللذّة لم تأته إلا لأنه في مغامرته راد عالماً مجهولاً، وحصّل تجربة
¥