ثم بدأت العبارات القادمة تتضح أكثر فأكثر، والإرسال يطول زمنه تدريجياً .. ثم تأكد كريم أنها عبارات عربية .. ولم تمض عليه أكثر من ساعة أو ساعتين حتى بدأ يميز الأصوات بشكل أكثر دقة ووضوح، رغم أنه لا يزال متقطعاً وبعيداً .. ثم بدأ من جديد يكرر: " أنا كريم .. هل تسمعني!!؟؟ أنا هنا على جزيرة نائية تدعى (آلادميرانتي) .. على بعد ثلاثمائة عقدة بحرية جنوب غرب تقاطع دائرة العرض ستين مع خط الاستواء .. هل تسمعني؟؟ "
... حدد ذلك بدقة، تماماً كما علمه (جندر)، وبدأ يكرر الكلام وينتظر الإجابة وهو يكاد
لا يلامس سطح الأرض من شدة الفرح .. ثم جاءه صوت قوي ومتواصل .. لكنه متداخل!! يبدو أنه لعدد من الناس وكأنهم مجتمعين في قمرة قيادة سفينة بعيدة، أو غرفة مغلقة أو نحو ذلك!!
" ألو .. ألو كريم هل تسمعني!! " ثم اختفى الصوت دقائق!!!!؟؟؟؟؟؟
ثم عاد الصوت من جديد: " هنا القائد (سميع الرحمن) هل تسمعني كـ ... ؟؟ ".
* * * * * * * * *
كان والد كريم وسيرين ورغد وباقي طاقم القارب الكبير مجتمعين بالفعل داخل قمرة القيادة
ودموع الفرح قد اختلطت بدموع اليأس والخوف داخل العيون .. ثم حبسوا أنفاسهم دقائق قبل أن يصرخوا جميعهم من شدة الفرح حين وصلهم صوت محبب إليهم، كله حماسة وفرح .. : "
ألو .. ألو سميع الرحمن هنا كريم هل تسمعني!؟ ثم حدد موقع الجزيرة من جديد ثم انقطع الصوت نهائياً هذه المرة ولم يعد إليهم ثانية!!؟؟
بينما كان كريم هناك على الجزيرة يعاني من مشكلة فنية طرأت فجأة على محول الكهرباء ولم يعد يعمل بشكل متصل!! ربما أن الوقود قد تسربت إليه قطرات من الماء بسبب المطر أو ربما أنه بدأ ينفذ.
* * * * * * * * *
استعرض القائد الهندي سميع الرحمن بعض خرائطه التي معه، وأجهزة قياس الأبعاد البحرية على الطاولة، وقام مع بعض معاونيه يشاركهم والد كريم وسيرين ورغد بالبحث عن موقع تلك الجزيرة المجهولة تحت مرمى الضوء من مصباح صغير يتدلى من فوق رؤوسهم .. وكم كانت فرحتهم حين حدد القائد الموقع بدقة متناهية، وقرر أنهم ربما يصلون هناك عند منتصف النهار أو آخره على أبعد تقدير.
هكذا كان الوضع في البحر ..
وهكذا كان الوضع داخل الكوخ ..
بينما الوضع في القرية كان مختلفاً تماماً!!!
كان إهيكاواتا الوفي قد انطلق كالسهم باتجاه غيوم يخبرها الخبر، وأن أهل كريم قادمون وسيرحل عنهم بعد ذلك.
سلك طرقاً مختصرة وخطرة يعرفها جيداً كراحة يده، حتى وصل بيت غيوم قبل أن يتعالى النهار.
وحين دخل على غيوم كانت أمها تنازع الموت. وكانت في سكون عجيب وتعاني من صعوبة بالغة في التنفس، وقد التف حولها عدد من نساء القرية، والطبيب، وساحر القبيلة الذي جاء من الغابة استجابة لطلب والد غيوم الذي كان قد تأثر بطقوسهم الغريبة مع طول بقاء بينهم.
وحين أخبر غيوم بالذي يجري هناك على الشاطئ؛ نزل الخبر على أرض قلبها كالصاعقة
أو كنيزك ضخم ارتطم بقوة على سطح الأرض فأحدث فُجوة عملاقة تفجر منها الدم وراح يجري في عروقها بجنون .. ولم تعد المسكينة تعي الذي حولها، وشعرت وكأن الأرض بدأت تدور بها بشكل مقلوب!!
أصبحت مشاعرها الآن تجاه أمها في حالة تجمد كامل تحت الصفر ... لبعض الوقت، في الوقت الذي أصبحت فيه مشاعرها تجاه ابن الحوت تغلي من جديد!!
رياح الجليد التي هبت مع مقدم إهيكاواتا بالخبر أصابتها بصقيع العجز؛ فجمد حركة جسمها على الفور حتى لم تعد تغمض بعينيها وكأنهما من زجاج ...
ثم أصابتها حمم الحب الحارقة من عمق البركان في عروقها الحرّى لتعلن أن ساعة الصفر الكئيبة بداخلها قد حانت .. فلم تعد تشم في الهواء إلا نُفاث سحبها السوداء ..
ويكأن الأرض من بين أقدامها باتت تتزلزل وتنشق وتضطرب ...
يا الله!!
كم هي الأقدار عجيبة ًبالفعل!!
لقد أوقفها القدر من حيث لم تحتسب على مفترق طريقين وعرين!!!!!
كلاهما وداع. ولا تدري أي الحبيبين تقف على أرض وداعه!!؟؟
هل تبقى تودع أماً تحتضر؟
أم تهب تودع حبيباً يرتحل ...
إلى عالم لا رجعة منه؟؟
الله وحده الذي يعلم ماذا سيكون حالها لو رحلا عنها معاً!!
¥