وكأن القدر قد رمى بالوداعين في وجهها فمزقها نصفين؛ نصف تعلق بأمها التي كانت وحدها التي تسكن قلبها طوال سنين عمرها التي مضت ..
ونصف تعلق بهذا الدخيل الذي سيعمر قلبها سنينها التي أقبلت.
ثلاثة وعشرون سنة من عمرها مضت، لم تشعر خلالها يوماً أنها بهذا الضعف .. وبهذا العجز والسكون والاستسلام، ولم تقف يوماً من الأيام على أرض وداع.
فيما مضى، كانت على أتم الاستعداد أن تضحي بكل شيء في سبيل إنقاذ أمها حين تعتادها فجأة نوبة قلبية كهذه .. ولم تكن تشعر حينها برغبة قوية في البقاء لو ماتت.
واليوم،
تسلل هذا الغريب إلى قلبها فتمكن منه فاستوطن، وباتت تشعر برغبة قوية .. لا بل عارمة في البقاء على قيد الحياة ولو من أجله هو على الأقل.
* * * * * * * *
مضى من الوقت قرابة الساعة، كانت كافية جداً أن تجعل غيوم تخترق مسافات بعيدة وسط الأحراش والأدغال التي بين القرية والكوخ، وكانت برشاقة وخفة تتنقل كالسهم بين الصخور والأشجار العالية يلحقها الغلام من ورائها والدهشة تملأ عينيه، لا يدري ما الذي أصاب غيوم هكذا!!
لم تكن تنطق بحرف واحد لكن صوت أنفاسها المتحشرجة وهي تلهث؛ تحرق مسامعه ..
وصوت سكينها الحادة المعلقة على خصرها، وهي ترتطم في كل مرة بصخرة عارضة؛ يبعث في نفسه الرهبة.
وكانت عينا غيوم كعيني ذئب مزق الجوع أحشاءه وبدأ يجري بلا هوادة.
لقد اطمأنت على حال أمها بعض الشيء قبل أن تغادر .. ولم تدر ما تصنع في هذه الساعات التي نامت فيها ..
إلا أنها لم ترد أن تضيع الدقائق والثواني الثمينة في التفكير حتى وجدت نفسها وقد دنت من الكوخ!
وحين شارفت على الوصول قبيل منتصف الليل، لمحت حركة غير عادية هناك!!
كان المكان حول الكوخ يضج بالحركة الدائبة!!
بحارة هنا وبحارة هناك، وكأنهم جاؤوا لغزو الجزيرة.
وقد أضاء المكان الذي بين الكوخ والقارب في شاطئ البحر؛ عقد ٌ من المصابيح المضاءة التي كان البحارة يحملونها في أيديهم وهم ينقلون الأغراض والحاجيات وكأنهم سيمكثون هنا أياماً طوال.
داخل الكوخ .. كان كريم في نشوة وسعادة غامرة وسط والده , وأخته الصغيرة , والقائد سميع الرحمن (وسيرين بالطبع) , وعدد من الأصدقاء البحارة الذين يعرفونه من قبل
وقد بدأ عليهم الفرح والسرور لرؤيته. ولم يستطيعوا إخفاء تأثير الفرحة على وجوههم وخصوصاً "سيرين " التي لم تعد اليوم خجولة ولم تتفطن لتصرفاتها وعباراتها!! فاختلطت دموع الحزن بدموع الفرح في عينيها ولم تبتعد كثيراً عن كريم بل كانت شبه ملتصقة به طوال الوقت وتنتقل معه هنا وهناك في منظر لفت نظر تلك الفاتنة وهي ترقب المشهد من بعيد بعيني ذئبة وسط الأحراش.
كان كريم يهم بفتح أحد البراميل التي أحضرها البحارة معهم من بلاد العرب مملوءة تمراً وزبيباً وشيئاً من التين المجفف ..
آه كم يحب التمر فعلاً.ثم توقف فجأة عن المحاولة وكأن حاسته السادسة قد أيقظت وجدانه الغافل .....
سدد نظره وتجاويف أنفه ناحية الظلام، ثم خرج مسرعاً خارج الكوخ وسلك طريقاً متعرجاً بين الأشجار بسرعة رهيبة حتى توسط داخل تجويف كبير هناك وسط الظلام وبدأ ينادي بصوت خافت غير مسموع: " غيوووووم " غيوووووم هل أنتِ هنا؟؟
لم يرجع صدى صوته بغير حروفه التي قال!!
فلف يديه حول فمه بشكل بوق مستدير وصرخ في الهواء بصوت عالٍ جداً و بكلمة واضحة وهو يدور حول نفسه ويقول:
" كرييييييييم نااااكوبينديا غيووووووووم "!!!
ـ[الحب خطر]ــــــــ[13 - 01 - 2005, 11:34 ص]ـ
الجزء الرابع عشر
مضت ثوان ٍ يسيرة، حتى خرجت غيوم من وسط الظلام يتبعها إهيكاواتا في إذعان ..
لم يتأخر كريم لحظة واحدة بل أمسك بيد الفاتنة وانطلق بها نحو الكوخ.
حين دخل كريم داخل الكوخ وبيده الفتاة ومن ورائهما الغلام سكت الجميع فجأة في ذهول
وكل فرد منهم يسدد نظره نحوهم!! ثم تقدم بها يخترق الصفوف حتى وصل حيث يجلس والده على السرير ..
_ كريم (وهو يخاطب والده): والدي .. هذه غيوم التي حدثتك عنها ..
¥