ـ[أنشودة المطر]ــــــــ[05 - 04 - 2005, 06:11 م]ـ
غياب الأم وحضورها في تجربة بدر شاكر السياب الإبداعية ـــ سيف الدين قنطار - سورية
لعلنا لا نجافي الحقيقة، حين نجد في قصائد السياب (1926 - 1964)، التي توجه فيها إلى أمه بعضاً من أدب الأمومة، ولوناً من ألوانه.
فأدب الأمومة شعراً ونثراً، كما هو معروف، واسع الانتشار في الآداب الأجنبية، بينما لم يكن حظه كبيراً في أدبنا القديم، وقد التفت إليه الأدباء العرب في العصر الحديث، وبرزت فيه صورة الأم لتعبر عن دلالات شتى.
فالأم لدى شعراء المهجر موئل الحنين، وعنوان الرقة والجمال والحنان، وعودة الابن المهاجر إلى حضنها أشهى لديه من الجنة كما يرى الشاعر رشيد سليم الخوري حيث قال: "لقد وصلت أمي إلى المهجر بعد أحد عشر عاماً، فألقيت يدي على كتفيها ذات مساء، وأدمت النظر إلى وجهها الكريم، وقد غمرتني ابتسامتها الفائقة العذوبة، بموجة من الحنان الذي لا يوصف، وتعلقت روحي بأسباب ذلك الشعاع المنبعث من عينيها، لكأني أرى رؤية شعرية لا عهد لي بمثلها، فملكتني نشوة الفن وقلت لها: لقد جئتك بما لم يجئ به شاعر لأم. وكانت قصيدة "حضن الأم".
وفي تلك القصيدة يناجي الشاعر ربه، ويرجوه أن ينقله من فردوسه السماوي، إلى حضن أمه، وتذكُر القصيدة بمعجزة ولادة المسيح:
أتيتك راجياً نقلي لحضن
أحب إليَ من هذا وأكرم ([1])
لحضنٍ طالما قد نمتُ فيه
قرير العين بين الشم والضم
فدعني من نعيم الخلد إني
نعيمي بين ذاك الصدر والفم
أما صورة الأم في الأدب الفلسطيني، فتمثل العزم والإصرار على الظفر بحياة إنسانية خالية من الاحتلال والتهجير والحرب، وترمز إلى حرية أمة عربية، ما زالت تنتابها الانقسامات القبلية والطائفية، فتحول دون انبثاقها ووحدتها، يقول محمود درويش: ([2])
وأنا أنا، ولو انكسرت، رأيت أيامي أمامي
ذهبا على أشجاري الأولى رأيت ربيع أمي، يا أبي
ورأيت ريشتها تطُرز طائرين لشالها ولشال أختي
ورأيت بين وثائقي قمراً يطُل على ظلامي
ورأيت هاوية، رأيت الحرب بعد الحرب، تلك قبيلة
دالت، وتلك قبيلة قالت لهولاكو المعاصر: نحن لك
وأقول لسنا أمُة أمة، وابعث لابن خلدون احترامي
ولكن شعر الأمومة لدى السياب نحا منحى آخر، هو في أجلى معانيه شكل من أشكال التذكر والمناجاة وحوار الذات للذات، افتقد السياب أمه منذ الطفولة، ولم ينعم بحنان هذه الأم إلا قرابة ست سنوات كانت تصحبه معها كلما قامت بزيارة عمة لها، تسكن عند نهر بويب حيث غزل السياب خيوط عمره الأولى، وراح يلعب تحت ظلال نخيل جيكور ومزارع بويب، فانطبعت في ذاكرته صورة هذين المكانين وزاد تعلقه بهما أنه رأى جسد أمه يدفن في ثراهما، كما أن زواج الأب السريع بعد غياب الأم أثر في نفسه تأثيراً عميقاً:
أبي منه قد جردتني النساء
وأمي طواها الردى المعجل
فكل ما كتبه من شعر فيها ينبثق مما ارتسم في ذاكرته واختزنته ساحة لا شعوره من عواطف وانفعالات. والشاعر من هذا الجانب يعيش في الماضي، ويرفع عن كاهله عبء الحاضر ويتخلص من الإحساس بالانفصال.
ولعل قصائد بدر في أمه تظهر مدى تمركز شخصيته حول الأم، مثله في ذلك مثل كثير من الرجال العاطفيين الذين رغم تطورهم النفسي والعاطفي يحافظون وهم رجال على تعلقهم بالأم، ويمتلكون على الدوام مشاعر الأطفال، فالطفل ينزع إلى الاتحاد مع أمه كي يتخلص من الشعور بالوحدة، وكي يتمتع بالحضور المادي لأمه، وحب الأم للطفل مطلق لا يحتاج إلى تحصيل، أو بذل جهد، وكل ما على الطفل أن يفعله، هو أن يكون موجوداً، وعندما يسترجع السياب ذاك الحب فلكي يحقق ذلك كله، فيتخلص من عزلته، وينعم بالتواصل والحماية، ويشعر بالأمن. فالسياب بمشاعره وتأملاته ومناجاته لأمه، يعبر عن قراءته الواعية لحالته النفسية والجسدية، ويجعل هذه القراءة منطلق كل شيء يصدر عن القلب والنفس، بحيث تصبح الذات مركز الشعر.
استدعى السياب أمه من مملكة الموتى، وخاطبها مخاطبة الأحياء، وبرزت صورتها أقوى صور الماضي، وأكثرها يقظة في نفسه، فالأم هي الدفء يواجه به في هذه القصائد قشعريرة الموت، هي التربة، والمحيط، إنها جيكور وأشجارها، وأزهارها، وطرقاتها الترابية في قصيدة "جيكور أمي":
تلك أمي وإن أجئها كسيحاً ([3])
لاثماً أزهارها والماء فيها والترابا
¥