والأم هي جميع تلك التجارب، التي تذكره بصلة الرحم، وتدمجه بحياة قريته، وتحرره من سأم الوحدة:
جيكور .. جيكور يا حقلاً من النور ([4])
يا جدولاً من فراشات نطاردها
في الليل، في عالم الأحلام والقمر
ينشرن أجنحة أندى من المطر
في أول الصيف يا باب الأساطير
يا باب ميلادنا الموصول بالرحم
من أين جئناك من أي المقادير؟
أسئلة الشاعر هذه، تذكر بقصيدة الطلاسم للشاعر المهجري إيليا أبي ماضي، وتعيد للأذهان تلك التصورات المتعلقة بتطور الحياة الإنسانية بوصفها انبثاقاً من الطبيعة، من الأم، من توارث الدم والمنبت، فعلى الرغم من أن الإنسان هو ابن الطبيعة والمتحد فيها قبل أن يهب منتصباً وينفصل عنها، فإن انفصاله عنها لا يدوم وسيعود مرغماً ليتحد بها من جديد مهما طال الزمن:
جيكور ماذا؟ أنمشي نحن في الزمن ([5])
أم أنه الماشي
ونحن فيه وقوف؟
أين أوله
وأين آخره؟
هل مرّ أطوله
أم مرّ أقصره الممتد في الشجن
أم نحن سيّان نمشي بين أحراش
كانت حياة سوانا في الدياجير
هل توحي هذه الأسئلة بأن الشاعر لا يدرك جدل الحياة، ولا يعرف أن الحركة قانونها المطلق، وهل حقاً يجهل أن ثمة ارتباطاً بين الزمن والحركة يجعل الميلاد، والطفولة، وحب الأم، يسير بهم الزمن باتجاه واحد من الماضي إلى المستقبل، أم أن وعي السياب لهذه الحقائق هو مصدر قلقه، وهلعه من اقتراب لحظة الفناء، التي ما ينفك يذِّكرنا بها:
جيكور لمي عظامي، وانفضي كفني ([6])
من طينه، واغسلي بالجدول الجاري
قلبي الذي كان شباكاً على النار
بعد أن يتوسل السياب إلى جيكور، ويأمل أن تشفق عليه، يرى من خلال أفيائها أمه، وقد انبعثت من جديد، ليرعى كل منهما الآخر:
أفياء جيكور أهواها
كأنها انسرحت من قبرها البالي
من قبر أمي التي صارت أضالعها التعبى وعيناها
من أرض جيكور ترعاني وأرعاها
تتزايد حاجة السياب اليوم إلى أمه بسبب مرضه، كما كان يحتاجها بالأمس طفلاً، وينشد الوحدة التكافلية معها بالرعاية المتبادلة، ولكن كيف يمكن إنجاز هذا التكافل بين أم ترقد في لحدها، وابن على سرير المرض؟ فرعاية كل منهما الآخر مستحيلة مادياً، وليس من حل لذلك إلا عبر التخيل والفن، عندها تصبح الرعاية حالة شعرية.
ينتقل الشاعر من الطريقة الإيحائية، إلى الأسلوب المباشر، في قصيدة "نسيم من القبر" وقد هبت مع نسيم الليل آهات الأم محمّلة بالوجد فيومض حب الأم المنبعث من الماضي في سمائه المتجهمة المربدَة، ويعشق الموت الذي سارت على دروبه، ويروي لها قصته مع المرض:
مضى أبدٌّ وما لمحتك عيني؛" ([7])
ليت لي صوتاً
كنفخ الصور يسمع وقعه الموتى، هو المرض
تفكك منه جسمي وانحنت ساقي
فما أمشي، ولم أهجرك، إني أعشق الموتا
لأنك بعض منه، أنت ماضي الذي يمضُ
إذا ما اربدت الآفاق في يومي فيهديني
ويحرص الشاعر على أن يدخل أمه في تفاصيل معاناته، بينما ينتقل من مشفى إلى مشفى، وهو ينام ويفيق على وقع أقدام الأطباء والممرضات، يجربون بجسمه مشارطهم وعقاقيرهم دون جدوى:
أما رَن الصدى في قبرك المنهار من دهليز مستشفى ([8])
صداي، أصيح في غيبوبة التخدير انتفض
على ومض المشارط حين سفت من دمي سفا
ومن لحمي؟ أما رَن الصدى في قبرك المنهار
وكم ناديت في أيام سهدي أو لياليه
أيا أمي تعالي فالمسي ساقي واشفيني"
وبعد أن يستغيث بها كي تشفيه، يصوّر لها معاناة أطفاله الذين ينتحبون من الويل، ويهتكون سرَ حياة الشقاء التي يعيشونها، في وطن الأم الذي لم يفوزوا فيه إلا بالجوع والحرمان، فمن ظل إلى ظل، ومن شمس إلى شمس تختنق كركراتهم، ويتصدع على مرأى منهم كل شيء، ولا يبقى سوى اليباب:
أما حملت إليك الريح عبر سكينة الليل ([9])
بكاء حفيدتيك من الطوى وحفيدك الجوعان؟
لقد جعنا وفي صمت حملنا الجوع والحرمان
¥