في قصيدة "نداء الموت" يؤكد الشاعر لنا أن الإنسان يولد دون مشيئته، وسوف يرحل عن هذه الدنيا دون مشيئته أيضاً، وهو على يقين أنه سيموت بعيداً عن أولئك الذين أحبوه، فيبعث هذا اليقين هلع الشاعر وخوفه من الانفصال، ويصبح وجوده المنفصل سجناً لا يطاق، ويرى في الشعر وسيلة إنقاذ تحرره من هذا السجن، غير أن شعره يعبر عن ازدواجية يبدو الشاعر من خلالها منقسماً على نفسه، ويعيش صراعاً يتمثل في جدل المقاومة والاستسلام، التحدي والخضوع، في الحالة الأولى يفصح عن موقف إيجابي من الحياة، ويكشف عن حب جارف للعيش فيتوجه بشعره للأحياء، وفي الحالة الثانية يخضع لنذير المرض فيتجه نحو الأموات يحاورهم برقة، ويرى أنهم ينادونه ويستعجلونه الانضمام إليهم:
يمدون أعناقهم من ألوف القبور يصيحون بي: ([10])
أن تعال
نداء يشق العروق، يهز المشاش، يبعثر قلبي رماداً
"أصيل هنا مشعل في الظلال
تعال اشتعل فيه حتى الزوال"
جدودي وآبائي الأولون سراب على حد جفني تهادى
وتتوزع ذات الشاعر في مرات كثيرة، وتتشتت إلى تمثلات ومشاعر وانطباعات وحدوس، فيسعى إلى لملمتها، بحيث تبدو مرتبطة بعضها ببعض، لكونها مندرجة في أنا واحد أوحد، هو لها بمثابة وعاء, وكي تتمكن الذات من تشكيل صلة الوصل بين مختلف الاحساسات والأفكار والحدوس عليها أن تدمجها في الأنا الكلية. وبصياغة أخرى لا بد لها من أن تصون نفسها من التشظي، ومن أن ترد كل شيء إلى كلية ذاتية. فجميع الأموات الذين سبقوا الشاعر ينادونه من آلاف القبور كي ينضم إليهم: الجدود، والآباء الأولون، والأم، ولكن الأحياء ينادونه أيضاً، فغيلان يعلم أن والده غير قادر على السير فيأبى الاعتراف بذلك أملاً بسلامة والده، وملاقاة لرغبة الأب الجامحة في البقاء:
وبي جذوة من حريق الحياة تريد المحال
وغيلان يدعو أبي سر، فإني على الدرب ماش أريد
الصباح
وفي غمرة هذا التجاذب، تحسم الأم المعركة، حين تنادي من أعماق قبرها المظلمة
الباردة ولدها، وتحثه على المضي في طريقها:
وتدعو من القبر أمي (بني) احتضني فبرد الردى في عروقي
فدفءّ عظامي بما قد كسوت ذراعيك والصدر واحم
الجراح
جراحي بقلبك أو مقلتيك، ولا تحرفن الخطى عن طريقي"
ويستجيب السياب الهش المزعزع لدعوة الأم، مخلفاً نداء ولده غيلان خلفه، معبراً في الوقت نفسه عن الصراع الذي يتناهبه، ويحاول أن يفلسف موقفه شعراً:
ولا شيء إلاّ إلى الموت يدعو، ويصرخ، فيما يزول،
خريف، شتاء، أصيل، أفول
وباق هو الليل بعد انطفاء البروق
وباق هو الموت، أبقى وأخلد من كل ما في الحياة
فيا قبرها، افتح ذراعيك ...
إني لآت بلا ضجة دون آه؛
هل حقاً يعشق الشاعر الموت لأن أمه بعض منه؟ وهل سينضم إليها دونما ضجة كما يزعم؟ أم أن توق السياب للتجاوز، واختراق الحالة التي يعيشها، أصبح هاجساً مغروساً في أعماق وعيه الذاتي، فيحاول عبثاً أن يقدم موقفاً مقنعاً لهذا التجاوز؟
يقول اسبينوزا: (يمارس الإنسان شعوراً إيجابياً عندما يكون حراً، ويمارس شعوراً سلبياً عندما يكون مساقاً) ([11]). وتجاوز الشاعر هنا سلبي فهو يجمّل صورة الموت مساقاً إليه، معلناً الاستسلام والانصياع له، وقد كَبله المرض وحرمه القدرة على مجاراة الحياة الواقعية.
وثمة تجاوز إيجابي يتجلى في تصميم الشاعر على مقاومة الموت، وفي تمرده على الخضوع والضعف، فيبوح شعره بالأمل، والرغبة بالعيش والتمتع بجمال الوجود.
ويجتمع النقيضان في القصيدة الواحدة، فعندما تمد الأم يدها لتخلص الشاعر من محنته، ومن أعباء حياة لم يعد قادراً فيها على تأمين الدواء لعلاجه، ولا الحصول على ثمن خبز الأسرة، فإنه يستجيب لنداء الأم، ويطرق باب الموت راضياً، غير أنه وفي لفتة إلى ابنه غيلان يعبر عن عمق ارتباطه بالحياة، وعن رغبته الآسرة بالبقاء:
أسمعه يبكي، يناديني ([12])
في ليله المستوحد القارس
يدعو (أبي كيف تخليني
وحدي بلا حارس)
غيلان لم أهجرك عن قصد
الداء، يا غيلان، أقصاني
هذا الإقصاء الذي لم يتحقق بعد، يستبق فيه الشاعر موته، ويعد نفسه لاستقباله، فيتراءى له كف أمه الممدودة، تعده بالراحة من تكاليف الحياة:
سأطرق الباب على الموت
في برهة طال انتظاري بها في معبر من دماء
وأرسل الطرفا
فلا أرى إلا الدجى والخواء
¥