سيتناول هذا البحث نماذج تطبيقية في الدراسات المقارنة، تحاول أن تتوقف عند نماذج متعددة للتأثر بالآخر (التأثر بالأسطورة كأسطورة بغماليون في الأدب العالمي (مسرحية برناردشو) وفي الأدب العربي (توفيق الحكيم، جورج سالم)، والتأثر بالرواية الحديثة كرواية فوكنر " الصخب والعنف" (غسان كنفاني) والتأثر بالفكر الوجودي (زكريا تامر) الذي تأثر برواية كامو "الغريب")
ومن جانب آخر سيتناول هذا البحث نموذجا لتأثير أدبنا القديم بالآخر الغربي (ابن طفيل "حي بن يقظان" في "روبنسون كروزو" لدانييل ديفو) كما ستتناول (الصورولوجيا: imagologie) أي صورة الآخر في أدبنا القديم (صورة الفرس في بخلاء الجاحظ) كذلك سنتوقف عند أحد النماذج الأدبية المدهشة التي قدّمها الأدب الغربي (نموذج القاتل الشريف في مسرحية شكسبير "عطيل" ورواية دوستفسكي "الجريمة والعقاب")
سنتبع في هذا الدراسة التطبيقية كلا من المدرستين الفرنسية والأميركية، مما يتيح لنا مرونة منهجية في البحث، فندرس النصوص وفق عوامل التأثر التاريخية والشخصية فنتبع خطى المدرسة الفرنسية تارة، وتارة أخرى لا نتقيد بهذه العوامل فننطلق باحثين عن جماليات الأدب دون الإمعان في مظاهر التأثر التاريخية والعوامل الشخصية فنتبع خطى المدرسة الأميركية في الدراسات المقارنة.
إن هذه الدراسة لا يمكن لها أن تدعي الكمال، فهي محاولة متواضعة في الدراسات المقارنة، تحاول أن تمهد هذا الطريق الشائك أمام دراسات أكثر عمقا.
تأثير أسطورة بغماليون في الأدب العالمي والعربي
سنحاول في البداية تقديم تعريف للأسطورة، يمهد الطريق أمام دراستنا المقارنة، ويبرز أبعاد استخدامها في الأدب، وما تضفيه من جمالية خاصة عليه.
إن أكثر الحضارات تملك قصص نشأة أو أساطير خلق، فهي "تروي تاريخا مقدسا، تروي حدثا جرى في الزمن البدئي، الزمن الخيالي، هو زمن البدايات، بعبارة أخرى، تحكي لنا الأسطورة كيف جاءت حقيقة ما إلى الوجود، بفضل مآثر اجترحتها الكائنات العليا، لا فرق أن تكون هذه الحقيقة كلية كالكون مثلا، أو جزئية كأن تكون جزيرة أو نوعا من النبات أو مسلكا يسلكه الإنسان أو مؤسسة.
إذن هي دائما سرد لحكاية "خلق" تحكي لنا كيف كان إنتاج شئ، كيف بدأ وجوده ... " (1)
هناك أنواع متعددة للأساطير منها:
1_ الأسطورة العليا: أسطورة الطوفان والخلق الأول، وهي تعبر عن نظام للعالم تصوره الإنسان نتيجة لموقف اتخذه يختلف عن موقفنا اليوم.
2_ الجولة البطولية مثل سيرة هرقل الأوديسة وهي أقل عمقا من الأسطورة السابقة لأنها ترتكز على إبراز شعب ما أو مكان ما أو شخص ما.
3_ الخبر الأسطوري الذي يروي حوادث تشبه الحوادث التاريخية، وكانت تعد عند أصحابها الأولين تاريخا (مثل اختطاف باريس الطروادي لهيلين) هنا تبدو الحوادث مقصودة لذاتها.
4_ الحكاية التشخيصية التي تفسر قصة أسطورية (كأسطورة بغماليون)، أو تضحية أو تسمية لمكان أو ظواهر الطبيعة، أو بعض المكتشفات الأولى مثل تفسير انتشار زراعة القمح على يد ديمترا ...
5_ الطرفة أو الأقصوصة التي تثير الحماسة أو الضحك ولا تحتوي على أي مدلول أخلاقي أو كوني.
كذلك هناك شخصيات تاريخية وجدت فعلا، لكن المخيال الشعبي حولها عبر الزمن إلى أسطورة (عنترة، كليوباترة، جان دارك، شارلمان ... ) فهي شخصيات باتت أسطورية حين استمدها الأدباء من التاريخ القديم، فأعملوا فيها خيالهم تغييرا وتحويرا، كما أن هناك شخصيات تاريخية حديثة باتت أقرب إلى الأسطورة (نابليون، غاريبالدي، بسمارك ... )
ومهما يكن التفاوت بين الأصناف من حيث الدلالة فإن أكثرها قد اكتسب على مر التاريخ دلالات حية وغنية ومتطورة حسب القيم التي يريد الأدباء أو المفكرون أن يعبروا عنها بوساطة الأسطورة، ومما ساعد على حيوية الأسطورة واستمراريتها عدم إحاطتها بالقداسة، فهي تهتم بنشأة المعنى وقد التصق بالحلم، من هنا ترتبط الأسطورة ارتباطا وثيقا بالتراث، بوصفه ذاكرة وتأويلا للماضي من جهة، وترتبط بالمستقبل بوصفها حلما (يوتوبيا) يعنى بالمستحيل والممكن معا من جهة أخرى، وكما يقول بول ريكور: إن من "دون نظرة الأسطورة التراجعية تحرم الثقافة من ذاكرتها، ومن دون نظرتها التطلعية تحرم من أحلامها، وقد تؤدي الأسطورة، في أفضل أحوالها، وظيفة تفاعل إبداعي بين دعاوى التراث
¥