واليوتوبيا ... " (2)
وعلى هذا الأساس لن تكون الأسطورة حنينا لزمن مضى، وعوالم منسية، بل إنها تشكل على حد تعبير ريكور "كشفا لعوالم غير مسبوقة، وانفتاحا على عوالم أخرى تسمو على حدود عالمنا الفعلي والمستقر" مما يؤدي إلى إحياء اللغة وتجديدها، فتبدو في نسق رمزي يؤسسه الخيال والحلم.
لذلك لن تنتهي فعالية الفكر الأسطوري في عصر العلم الذي نعيشه، وقد يبيّن لنا علي حرب أن الأسطورة "بعد من أبعاد الوعي الإنساني "ذلك أن الإنسان ينزع إلى تفسير الطبيعي بما وراء الطبيعة، ويخلع على الثقافي طابعا أزليا، ويخفي الطابع الأناسي لابتكاراته ولغاته ... وهو يبحث دوما عن نظام خلف الفوضى، ويتصور برنامجا لكل نمو وتطور ويكتشف مقاصد وراء الأحداث، ويقرأ معنى فيما لا معنى له، فالأسطورة هي ولّادة المعاني، ومحرك الجموع وقابلة التاريخ، ولا زوال لها إلا بزوال المعنى إنها تفعل في مملكة الإنسان، والعلم يفعل في مملكة الأشياء" (3)
يمكن للأسطورة أن تؤدي وظيفتين إيجابيتين يفضي الإخلال بهما إلى وظيفتين سلبيتين، فهي لكونها أيديولوجيا يمكن أن يحولها الإفراط في هذا الجانب إلى وظيفة تبريرية سلبية تدافع عن كل ما هو كائن، بدلا من ممارسة نقده، أما الإفراط في اليوتوييا فيحولها إلى وعي زائف يموه به المجتمع على نفسه، بدلا من اكتشاف ما يعوّق كينونته وتطوره!!
لو تأملنا البطل الأسطوري للاحظنا أنه كائن متفوق، ينتمي لعالم غير عادي، إنه أشبه بـ (إله) وتكشف لنا الأساطير عن الفعالية المبدعة لهذه الكائنات، وتميط اللثام عن قدسية أعمالهم (أو عن مجرد كونها أعمالا خارقة) عرفانا بفضلها في أزمنة البدايات، باختصار إنها تصف (كما يقول مرسيا إلياد) " أوجه تفجر القدسي في العالم"
تعد الأسطورة خارج الأصناف الأدبية الطبيعية عادة، إنها رافد مهم للأدب، لمسنا فاعليتها منذ الأدب اليوناني، فقد اعتمد عليها أدباء المآسي (أسخيلوس وسوفوكليس ويوربيدس) والملاحم فـ (هوميروس) مثلا استطاع أن يتناولها بحرية، مما مهد الطريق أمام الآخرين الذين أتوا بعده واستطاعوا أن يقدّموها من خلال قناعاتهم وأهدافهم، لأنها لم تحط بها هالة من القداسة، وقد امتد هذا التناول الحر للأسطورة في الأدب الروماني.
إننا نستطيع القول بأن الأسطورة قد شكلت فضاء الأدب الحديث بأجناسه المختلفة (شعر، قصة، مسرح) بل امتد أثرها إلى العلم (كعلم النفس) وكذلك نجد كثيرا من النقاد المحدثين يرون أن من جماليات الرواية الحديثة أن تبنى بناء أسطوريا.
أسطورة بغماليون:
كان بغماليون ملكا على قبرص، ونحاتا بارعا، قضى معظم حياته عزبا إلى أن صنع تمثالا عاجيا لامرأة جميلة، فأسقط حبه للمرأة على هذا التمثال، لذلك دعا الآلهة أفروديت (آلهة الجمال والخصب عند اليونان) أن تحييه، فاستجابت لدعائه، فكانت (غالاتيا) التي تزوجها وولدت له (بافوس) مؤسس مدينة قبرصية دعيت باسمه (4)
تقدم هذه الأسطورة أعماق كل فنان، إنه يحس بروعة ما أبدعه، كما يحس بأن فنه هو ذاته لذا يرغب في التوحد معه، نظرا لفرادته وروعته، لذلك يستحق أن ينبض بالحياة وينال الإعجاب والخلود.
إن أول من تحدث عن أسطورة بغماليون هو أوفيد الروماني في قصصه "المسخ" ثم تناولها شعراء وكتاب من مختلف الآداب، وخاصة من الإنكليز كالشاعر جون مارستون في قصيدته "نفخ الروح في صورة بيغماليون" (5)
وقد كانت هذه الأسطورة موضوعا أثيرا في عصر النهضة، ثم في العصر الحديث (مسرحية برناردشو التي تحمل عنوان الأسطورة نفسها "بغماليون ومسرحية توفيق الحكيم التي حملت أيضا الاسم ذاته للأسطورة أيضا) سنتوقف في هذه الدراسة عند هذين الكاتبين، وسنبدأ بمن سبق في التأثر بهذه الأسطورة (برناردشو) الذي أثّر بتوفيق الحكيم، كما أثّرت الأسطورة تماما. (6)
مسرحية بغماليون لبرناردشو:
¥