وعلى هذا الأساس كانت الميزة الرئيسية لرواية "تيار الوعي" قدرتها على تصوير الشخصية على نحو أكثر دقة وأكثر واقعية من الرواية التقليدية، لأنها لا تقدم الإنسان من الخارج، وإنما من الداخل، أي تقدم ماهية الإنسان، ومن المعروف أن كل مؤلفي هذه الرواية (فيرجينا وولف، وليم فوكنر، جيمس جويس ... ) كانوا على معرفة بنظريات التحليل النفسي، وبنظرية الشخصية التي ظهرت من جديد في القرن العشرين، وبالفلسفة الجديدة والتصوف الديني، والوجودية المسيحية، ... الخ
إن الرواية الحديثة تهتم بالبحث عن المعنى في الشخصية الإنسانية أكثر من البحث عنه في الفعل ورد الفعل الاجتماعيين، وبذلك تسلط الأضواء على الفرد لا على المجتمع، أي على أفكاره التي تتسلط عليه في الحاضر، والتجارب الماضية التي يعايشها فيه، فيتبدى لنا الهم الاجتماعي بطريقة غير مباشرة، أي بطريقة أكثر إيحاء وفنية.
لذلك يلتقي هؤلاء الروائيون بالروائيين الطبيعيين (زولا، فلوبير) في أنهم يحاولون تصوير الحياة بشكل دقيق، ولكن الحياة التي استأثرت باهتمامهم كانت الحياة الداخلية للشخصية، على نقيض الروائيين الطبيعيين.
الانطباعات والصور:
تعتقد فرجينا وولف أن الشيء المهم الذي ينبغي أن يعبر عنه الفنان هو رؤيته الخاصة، أو ماهية الحياة من زاوية ذاتية، وأن الشيء الهام في الحياة الإنسانية هو البحث عن المعنى والتعرف إلى الذات، ولهذا فإن طريقتها في الكتابة الروائية هي تقديم الانطباعات النفسية (عن طريق الصورة، والتركيز على العلاقة بين الأشياء) وهي تختار تلك الانطباعات بوصفها مراحل في طريق الوصول إلى رؤية ما، وبذلك يصبح تشريح النفس الإنسانية ليس مجرد تحليل شكلي، وإنما يمتلئ بحساسية الفنان الانطباعي للون والصوت والشكل والرائحة.
وقد بدت الصورة الجمالية لدى (جويس) حياة مصفاة في قالب من الخيال الإنساني، ومبرزة بفضله، لذلك يتحقق السر الجمالي على نحو شبيه بحالة الإبداع المادي، فالفنان، مثل المبدع في عالم المادة، يظل مختفيا ومصفى خارج الوجود ومحايدا يتسلى، وهكذا كان في روايته يوليسيس.
أما لماذا يصر (جيمس جويس) أن يتخلص العمل الأدبي من آثار مؤلفه؟ فنجده يوضح لنا أن العمل الأدبي بوصفه إبداعا ليس أكثر من عمل يقتضي مهارة، وجمالية هذا العمل في تأثير على المتلقي، أي في جعله على اتصال مباشر بالحياة التي يمثلها، كأنه يريد تقديمها كما هي في الواقع دون حكم تعسفي أو تقييم مباشر، لذا كانت المعرفة هي أخلاقية الرواية الوحيدة، كما يقول كونديرا، وهي معرفة داخلية تتعلق بدقائق النفس، ولا تعني حشوها بمعارف، تثقل كاهلها، وإنما نجد توظيفا لمعارف عدة في جسد الرواية عبر لمسات فنية، فتبدو جزءا حيويا من فضاء الرواية.
ومن المزايا التي تتوافر لرواية "تيار الوعي" هي قدرتها على تقديم الرموز بوصفها بدائل للأفكار الذهنية.
تقنيات الرواية الحديثة:
ثمة ملاحظة يحسن التوقف عندها وهي أن التقنية الفنية لرواية "تيار الوعي" ليست واحدة وإنما تختلف من رواية إلى أخرى، اختلاف التكوين الذاتي والاجتماعي للفنان، فالإبداع في أي مجال ذاتي، وهذا يعني أن يحمل بصمة خاصة به، كما يحملها الإنسان في أصابعه، لتدل على شخصيته المتفردة، لهذا تتعدد تقنيات الرواية الحديثة بتعدد الروائيين.
إننا حين نتحدث عن تقنيات هذه الرواية فمن أجل أن نبرز أهم معالمها دون أن يعني ضرورة التزامها بشكلها الحرفي، أو حصرها في قالب واحد لا يطاله التغيير، أو الإضافة، فهي أدوات باتت شائعة في الرواية، يتوجب علينا معرفتها، كي نتمكن من التفاعل مع الإنجازات الحديثة للرواية، ولعل أهم هذه التقنيات المستخدمة هي: الحوار الداخلي المباشر، الحوار الداخلي غير المباشر، الوصف عن طريق المعلومات المستفيضة، مناجاة النفس ...
الحوار الداخلي: هو تلك التقنية المستخدمة في الرواية بغية تقديم المحتوى النفسي للشخصية، والعمليات النفسية لديها، دون التصريح أو التلميح إلى أن الشخصية ستجري حوارا داخليا.
¥