تتجلى روعة دوستويفسكي، في رسم هذه الشخصية، التي سيطرت عليها أفكار المادة في مطلع حياتها، لكن رؤيته العميقة للحرية الإنسانية، التي لن تكون حرية عقلية فقط، وإنما هناك حرية العاطفة التي كثيرا ما ننساها في زحمة البحث عن المصلحة المادية التي تقترن غالبا بالعقل، فهاهو ذا يقول على لسان بطله بعد أن عرف أن أخته (دونيا) ستتزوج برجل لا تحبه من أجل ما يملكه من مال تساعد به أمها وأخاها، "إننا نحاول في بعض المناسبات قتل عواطفنا، فنحمل حريتنا إلى السوق نعرضها."
من هنا لا نستطيع أن نقول إن الفكرة هي بطلة العمل الروائي عند دوستويفسكي، بل إنسان الفكرة، على حد قول باختين (13)
نقاط اللقاء بين عطيل شكسبير وراسكولينكوف دوستويفسكي:
_ بناء على ما ذكرناه سابقا، لا نستطيع القول بأن دوستويفسكي قد تأثر تأثرا مباشرا بشكسبير في رسم ملامح شخصية بطله، فشتان بين شخصية ظهرت في القرن السابع عشر (عطيل) وبين شخصية ظهرت في القرن التاسع عشر (راسكولينكوف) جسدت لنا تعقد الحياة الفلسفية والاجتماعية، وازدياد القلق الإنساني ومعاناة الإنسان الداخلية من أجل إقامة العدل ودفع الظلم الذي اتسعت رقعته.
إننا نستطيع أن ندعي إمكانية وجود قواسم إنسانية مشتركة، تؤكد أن الإنسان هو الإنسان في أي زمان ومكان، لذلك لجأ كلاهما إلى التغلغل إلى أعماق النفس البشرية لتصوير لحظات ضعفها، قبل تصوير لحظات قوتها، لذلك وجدنا أمامنا قاتلا شريفا، يمتلك النبل الإنساني والحب للبشرية جمعاء.
_ من هنا نستطيع أن نرى لقاء في الأهداف لدى الكاتبين، فقد جسدا لنا المثل العليا وقد انتهكت، كما جسدا لنا الروح الإنسانية في لحظة تطهر (إما بالموت، أو بقبول العذاب والسجن) كل ذلك من أجل إعلاء قيمة المثل الأعلى في الحياة، أي كل ما هو خالد ونبيل في الحياة، وقد أدرك دوستويفسكي (الذي كان الدفاع عن المثل الأعلى دينه الذي آمن به في الفن) صعوبة وصول الإنسان الواحد، حتى لو كان شكسبير نفسه، إلى المثل الأعلى الخالد والشامل بصورة كاملة، لأننا بحاجة إلى جهود عدد كبير من البشر، ومن هنا نجد كل فنان عظيم يسعى في هذا الطريق، فليس الأمر محصورا بشكسبير ودوستويفسكي إنها رسالة الفن يؤديها المبدع كما تؤدي الرسل رسالة السماء.
_ كلا الأديبين رأى أهمية الإنسان في القلب والعواطف، وبذلك لم يريا الإنسان فكرة عظيمة يستطيع الفن أن يجسدها فقط، لذلك اهتما بإنسانية الإنسان التي تكمن في روحه وعواطفه إلى جانب عقله.
_ نجد لدى الكاتبين رهافة حس عظيمة تجاه الجوانب المأساوية في الحياة، وتعاطفا مع الألم الإنساني، لذلك ليس غريبا أن يطلق على دوستويفسكي لقب "شكسبير عصره" إذ كان همه البحث عن طمأنينة النفس الإنسانية، فرأى أنه بالإمكان تحقيقها عن طريق حب الله وحب الناس وقبول الألم ولو على غير استحقاق إذ إن في الألم قداسة في رأيه، لذلك وجدناه ينعش النفس ويحييها بعد سقوطها، فهو يقدس الحياة الإنسانية، ولا ننسى هنا تجربة الموت التي تعرض لها في شبابه المبكر، هي التي جعلته يقدس الحياة الإنسانية.
_ كلا البطلين مصاب بنوع من الضعف النفسي أحدهما بسبب اندفاعه الانفعالي وطيبته (جنون الغيرة: عطيل) والآخر بسبب سيطرة فكرة واحدة على عقله والتهور الذي يصاحب الشباب (جنون العظمة: راسكولينكوف)
_ استطاع كلا الأديبين أن يتجاوز السائد في عصره، فشكسبير تجاوز قوانين الكلاسية التي تؤكد على العقل وحده، ولا تعير التفاتا للعاطفة، فجمع إلى جانب العقل العاطفة، كذلك تجاوز قانون الوحدات الثلاث، وصار يعرض على المسرح المشاهد الدامية، حتى اتهمه نقاد عصره بأنه بربري لكثرة ما يعرض من مشاهد القتل على المسرح
كذلك تجاوز دوستويفسكي القوانين السائدة في عصره، أي أدب الطبقة العليا، وبدأ يلتفت إلى معاناة الأسر الفقيرة، أو المتوسطة، متأثرا بغوغول، فانتبه إلى "الواقع" المعقد والمتناقض وغير المتزن فنيا.
¥