تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

يحدثنا دوستويفسكي عن بطله إثر ارتكاب الجريمة، إذ إن مشاعر غير متوقعة وغير منتظرة تعذب قلبه، لقد اصطادته في النهاية الحقيقة الإلهية: الضمير والقانون الذي صنعه البشر، وهو مضطر للتبليغ عن نفسه، مضطر حتى لو أدى ذلك إلى أن يهلك في السجن، لينضم من جديد إلى الناس، إن الشعور بالعزلة عن الجنس البشري الذي استولى عليه أرهقه، وبدأ قانون الحقيقة الإلهية والطبيعة الإنسانية يحدثان تأثيرهما، ولذلك يقرر المجرم على مسؤوليته أن يقبل العذاب لكي يكفر عن جريمته ... " وبذلك يتحول القانون الذي أوجده البشر إلى وسيلة تخفف معاناة المجرم من معاناة داخلية لا ترحم، ولذلك فإن العقاب يحتاجه المجرم، في رأي دوستويفسكي، ليس فقط من الناحية الأخلاقية وإنما من الناحية النفسية أيضا.

نجد في الرواية محاكمات ثلاث، (نفسية، أخلاقية، قانونية) يتعرض لها البطل في أعماقه قبل أن يتعرض لمحاكمة المجتمع التي ستكون مخففة، لذلك تتحول هذه المحاكمات إلى بحث عن الحقيقة الإنسانية، فقد أحس بعد قتل المرابية، أنه لم يستطع أن يجسد أفكاره عبر فعل ملموس، لذلك ما يعذبه هو فقدان إيمانه بعدالة قضيته! فقد اكتشف أنه بشر غير متفوق، لذلك نسمعه يقول "لو كنت قتلت لأنني كنت جائعا لكنت الآن سعيدا" فقد كان القتل لديه رغبة في تجسيد فكرة على أرض الواقع، فها هو ذا يصرخ "أردت أن أصبح نابليونا لذلك قتلت"

إن البطل يكتشف عدم جدوى إقامة السلوك الإنساني على العقل وحده، فهذا يعني احتقار الجنس البشري والنظر إليه باعتباره جرما ماديا يستطيع الإنسان المتفوق الاستهانة به، بفضل ما يملك من عقل، مأساة البطل أن الجانب العاطفي المهمل في حياته بدأ يستيقظ ليعذبه أشد أنواع العذاب "إن ما يجعل راسكولينكوف يعاني ليس ضميره بقدر ما هو التفكير في أنه لم يستطع أن يقتله، لقد حاول أن يسحقه لكنه أخفق، معاناته بعد الجريمة لا تتولد من الضمير بل من محاولة قتله" (11)

لذلك بدا لنا تركيز دوستويفسكي على الوجدان الذي يرى فيه الخلاص الوحيد للإنسان، والإمكانية الوحيدة للعقاب، عندئذ يدرك الخاطئ أنه ارتكب ذنبا في حق الحياة البشرية، فخسر قضيته الفكرية ودمر حياة أبرياء (يقال أن إليزابيتا الطيبة كانت حاملا، مما يضاعف الجريمة، وأن رجلا بريئا سيحاكم بجريمته) مما يؤجج معاناة داخلية لن يخففها أي عقاب دنيوي.

تكمن روعة هذه الرواية في تسليط الضوء على تلك الحرب التي دارت في أعماق البطل من أجل مقاومة انكشاف الجرم أمام ذاته، هنا يتوحد المتلقي مع البطل ليعايش هذه المعاناة، فيحترق في أتون الضمير، لإنقاذ المثل التي تجعل الحياة الإنسانية ذات معنى، مؤكدا مقولة رددها في رواية "الأبله" وهي "الجمال سينقذ العالم" ولن يكون هذا الجمال سوى الحب (للبشرية بأجمعها) وتقديس الحياة وبعث للضمير ... أما القبح (القتل وإلغاء العواطف من حياتنا ... ) فإنه سيدمر الحياة.

وفي رأي دوستويفسكي لن يتفتح الضمير الإنساني، إلا بتفتح القلب والإيمان بالله، عندئذ يستطيع مواجهة المعاناة التي يقتضيها هذا التفتح، وهكذا فإن خير الإنسانية يكمن في الضمير الذي هو الله لدى دوستويفسكي، والضمير يعني إحساسا بالمسؤولية تجاه البشرية جمعاء، ومحاولة إسعادها، وذلك بالحفاظ على إنسانية الإنسان، أي بالحفاظ على القوانين التي تنظم الحياة البشرية وتحميها.

لذلك اضطرب فكر راسكولينكوف بين "الصليب أو الفأس" أي بين الإيمان أو الجريمة، فالإيمان يبدو لنا مثقلا بالمعاناة ومجسدا بالتضحية من أجل الآخرين وهذا دليل محبتهم عندئذ تزدهر إنسانية الإنسان، أما الجريمة فهي تلغي هذه الإنسانية، وغالبا يرتكبها أناس لا أعماق لهم تسيطر عليهم أفكار الماديين الملحدين، التي تعزز الأنانية في النفس وحب المادة، وتركز عليها دون الأعماق، ميزة راسكو لينكوف أنه لم يتمتع بهذه الصفات العادية للمجرمين، كان مفكرا ومصلحا اجتماعيا، لم تسيطر عليه الأفكار الأنانية، كذلك لم يستطع إلغاء وجدانه وضميره، من هنا كان قاتلا استثنائيا، لهذا لا نستطيع أن نقبل رأي د. ممدوح أبو الوي الذي يرى أفكار راسكولينكوف .... أفكارا مادية شيطانية (12).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير