و إذا كنت فيما سبق قد تناولت معنى الأسلوب باعتبار كل عنصر من العناصر الاتصالية الثلاثة؛ ثمّ عقّبت بتعريفٍ شاملٍ لكل هذه العناصر؛ فإنني هنا أودّ أن أختم أخيرًا بتعريف الأسلوب عند شارل بالي - باعتباره مؤسس علم الأسلوب - , حيث يتمثّل عنده في مجموعةٍ " من العناصر الجمالية في اللغة يكون بمستطاعها إحداث تأثير نفسي عاطفي على المتلقي " (38) , و مما يمكن أن يُؤخذ على هذا التعريف أنه أغفل جانب المبدع.
و جوهر الأسلوب عند بالي يتمثل في " إنزال القيمة التأثيرية منزلةً خاصةً في سياق التعبير , أما علم الأسلوب فيتوجه إلى الكشف عن هذه القيمة التأثيرية (من ناحيةٍ جمالية نفسية عاطفية) " (39).
و تعريفات الأسلوب التي تنطلق من الخطاب و تجعله أساسًا , تشترك في مفهومٍ يوحد بينها , و هو مفهوم الانزياح أو العدول (40).
الانزياح أو العدول:
إن من أهم صفات الأسلوب الأدبي عمومًا و الشعري على وجه الخصوص أنه يتميز بنوع من العدول عما هو مألوف في اللغة , مما يكسر النسق الثابت و النظام الرتيب , و ذلك عن طريق استغلال إمكانات اللغة و طاقاتها الكامنة ... (41).
فالأسلوبيون ينظرون إلى اللغة في مستويين:
الأول: النمط التعبيري المتعارف عليه , الذي يؤدي الوظيفة الإخبارية للكلام , و هذا المستوى هو ما يطلق عليه البلاغيون " أصل الكلام ".
الثاني: النمط الإبداعي , الذي يقوم على تجاوز المستوى الأول و العدول عنه إلى التعبير الفني , و إلى هذا المستوى تتجه عناية البلاغيين و الأسلوبيين (42).
و يعرف الانزياح في تراثنا البلاغي باسم (العدول) , و أطلق عليه ابن جني (الانحراف) (43) , كما يقترب هذا المفهوم من قول البلاغيين: " خلاف مقتضى الظاهر" , أو: " تلقي المخاطَب بغير ما يترقب " (44).
و من الملحوظات المبكرة في التراث العربي حول هذا المفهوم: ما ذهب إليه بعض النقاد (45) من أن الجاحظ قد أشار في (البيان و التبيين) إلى مستويي اللغة: المستوى العادي في الاستعمال , و المستوى الفني في الاستعمال الخاص , و يقترن المستوى الأول بطبقة العامة و غرضه إفهام الحاجة , أما المستوى الثاني فغرضه البيان البليغ , و يتميز هذا المستوى بمبدأ اختيار اللفظ و ينفرد بالتجويد و التماس الألفاظ و تخيرها (46).
و من المنازع الأسلوبية ما يسمى بأسلوبية الانزياح - أو أسلوبية الانحراف - , و يعرَّف الأسلوب هنا بأنه: " انحراف عن نموذج آخر من القول يُنظر إليه على أنه معيار أو نمط " (47) , كما يعرّف البحث الأسلوبي بأنه علم الانحرافات (48).
و مما ينبّه عليه أنه " ليس كل عدولٍ أسلوبًا " (49) , إذ لا بد من ارتباط العدول الأسلوبي بوظيفة يؤديها في النص , و إلا كان لعبة أسلوبية ليست بذات أثر (50).
و هناك مصطلح أسلوبي لا تقل أهميته عن مصطلح " العدول " أو " الانزياح " , ألا و هو " الاختيار " , و قد آثرت الكلام عنه لارتباطه في الكتب الأسلوبية بمصطلح العدول , و لكونهما معًا أساسًا للظاهرة الأسلوبية.
الاختيار:
و هو الركيزة و المبدأ الأساس لتحليل الأسلوب , حيث يفسّر المحلل الأسلوبي الاختيار الذي قام به الأديب من بين سائر صنوف الأداء اللغوي (51) , فالمبدع يقوم بعملية " الاستبدال " من بين مجموعة من الألفاظ المترادفة القائمة في الرصيد المعجمي له , يقوم بينها ما يسمى بالعلاقات الاستبدالية , و للمتكلم أن يأتي بأحد هذه الألفاظ في نقطةٍ معيّنة من نقاط سلسلة الكلام , و تقع عملية الاستبدال ضمن محور الاختيار (52) , و قد عُرّف الأسلوب هنا بأنه " اختيار أو انتقاء يقوم به المنشئ لسمات لغوية بعينها من بين قائمة الاحتمالات المتاحة في اللغة " (53) , و قد حفلت الكتب الأسلوبية بكلامٍ مفصَّلٍ حول مبحث الاختيار لأهميته (54).
========================
الهوامش:
(1) انظر (لسان العرب) , ابن منظور , ج 7 , دار صادر , بيروت , ط1 , 2000م , مادة (سلب) , ص 225.
(2) (دلائل الإعجاز) , عبد القاهر الجرجاني , قراءة و تعليق: محمود شاكر , مكتبة الخانجي و مطبعة المدني , القاهرة , 1404 هـ , ص 469.
¥