تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قلنا إن القراءة الجيدة ليست مفهوما معياريا أبدا، و لا يوجد مصداقية لأي قراءة، و التاريخ الادبي يثبت ذلك، ففي شروح الشعر _ بوصفها نموذجا موثقاً ـ نجد عدد من المعاني يتجدد للبيت الواحد و مع كل معنى مبرراته المقنعة لدى الشارح. إذن للقراءة بعد جمالي فحسب، و هي تكتسب ذلك البعد الجمالي من عمق تفاعل القارئ الفاعل مع النص المقروء. و قلنا أيضا إن النص الأدبي يطرح مداخل متعددة للقراءة، و قد كانت هذه الخاصية فيه سببا لاختلاف توجهات التحليل النقدي في تاريخ النقد القديم و الحديث، و لكل من تلك التوجهات ما يبرره من طبيعة النص الادبي نفسه. فالتحليل النفسي مثلا يتخذ مبرراته من الطابع الايحائي النفسي لبعض لنصوص، و التحليل الواقعي كذلك، و كذلك غير تلك التوجهات التي مثلتها مناهج النقد و مدارسه المختلفة. و ذلك الطابع للنص الادبي يطرح امكانية تعدد قراءات النص و نجاح كل القراءات ما دامت تبرر مداخلها من بنية النص الفنية.

من هذا المنطلق تتوسل قراءتنا المبدئية ل" دارين " بطابع فني ظاهر في النص بوضوح، ذلك الطابع يتبدى في توظيف العنصر اللغوي من ضمن عناصر بنية النص الفنية. و هو بطبيعة الحال ليس العنصر الوحيد الذي نجح في توظيفه الشاعر لشحن النص بروعته الخاصة، الا اننا من خلال هذا المدخل نفتح الباب لقراءات أخرى، تضيف الينا او تصنع عالمها الخاص.

يتخذ توظيف العنصر اللغوي في " دارين " عدة مظاهر نبدأ هنا بالوقوف على اثنين منها، هما: التكرار، و الترادف. و لكل من هذين المظهرين جمالياته التي عرفها الشعراء من قديم و أحسنوا توظيفها في ابداعاتهم. نجد الترتدف على مستوى المفردة، و التكرار على مستوى الاسلوب، و التركيب.

فمن التكرار نجد الشاعر يكرر اسلوب الخبر في الأبيات الاولى: بالله، بالمصطفى، بالدين، بالايات = آمنت ... بالشرع، بالملة الغرا، بما سطعت به شموس الهدى.و يكرر الشاعر تركيب شبه الجملة _ جار و مجرور، و اضافة _ في الابيات عامة: بالله، بالملة الغرا .... الخ، و هناك تكرار لتوظيف الحال: موزجت ياسمينا، كوني ملاكاً، انتفضي خريدةً.

و هو يصنع ابنية من التكار على مستوى المقاطع، فهو يمزج مثلا بين شبه الجملة و الجملة الحالية، و يكون منهما مقطعا يكرره صانعا نوع من التناغم الموسيقي مصدره التركيب النحوي، و ذلك في البيتين:

و موزجت ياسمينا، ثم ما لبثت

من بعد ذاك عليها أنزلت كوني

كوني ملاكا برغم الطين و انتفضي

خريدة من عداد الخرد العين

اذن تتبدى لنا الفاعلية الجمالية للتكرار في مضاعفة الموسيقى الداخلية للنص. و هي موسيقى يمكن ان تنبعث من أي عنصر يستطيع القارئ تحسس تناغم موسيقي بواسطته. و من هذه النقطة ننتقل الى الترادف على مستوى المفردة، فالترادف هنا هو أيضا رافد من روافد الموسيقى الداخلية للنص. على سبيل المثال نذكر ترادفات مصدرها الجناس: يدفعني -دفع، الحد - حد، يسعى سعي، عين - عين. و هناك تردفات معنوية:نور - تبيين - شموس، رأي - معتقد. و من الترادفات يصنع الشاعر حقولا دلالية تضفي مزيدا من التعقيد الفني مثل: الله - الشرع - الملة الغرا - الهدى = كلها مفردات تنتمي الى حقل دلالي واحد يمثله جانب الاستقامة الدينية. و هناك: الشياطين - يزل -عذاب تعمى بصيرته = و هذه مجموعة مقابلة للمجموعة السابقة بانتمائها الى حقل الانحراف الديني.

هنا يمكن أن نشير الى بنية التضاد و هي بنية لغوية أيضا يوظفها النص، لكن أتركها لمن يبحر معها من الاخوة القراء.

و هكذا نلاحظ أن الشاعر يوظف البنية اللغوية هنا بكثافة، و لعل كثافتها تلك أعطت للنص بعدا من كثافة الفعالية الجمالية و عمقها مع قصر النص و تركيزه، فالفعالية الجمالية لنص ما تقاس بمدى استمرار بث الوقع الجمالي في نفس القارئ و ذهنه. و هكذا كان الوضع في هذا النص عبر بنى لغوية استطاع بها الشاعر أن يضاعف الفعالية الجمالية من خلال مضاعفة زمن استيعاب بنية الجملة عنده بما تطرحه من مظاهر فنية متعددة في القراءة الواحدة. و هذه وظيفة اخرى للترادف و التكرار بالاضافة الى بعدهما الموسيقي.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير