ولهذا فإن الزمخشري يقع أمام هذه الكلمة حائرًا محتارًا، فيصفها بالكلمة المشكلة أولاً، ثم ينقل رأي من رأى أنها كلمة من موروث مضى ومضى معه أهله ومن له علم بذلك الموروث، وهو بذلك يشير إلى خطورة هذه الكلمة وإلى أهميتها وأهمية (الفضاء الدلالي) الذي تتداخل معه، وفي ذلك يقول محددًا ومثيرًا لإشكالية المصطلح:
هذه الكلمة مشكلة قد اضطربت فيها الأقاويل، حتى قال بعض أهل اللغة: أظنها من الكلام الذي درج ودرج أهله ومن كان يعلمه (1).
ولا ريب أن الزمخشري هنا لا يقصد حرفية الحكم بأن الكلمة ودلالتها قد انقرضت. ولكنه فقط يشير إلى درجة الاضطراب الدلالي حولها، مما يجعلها كلمة مفتوحة منفوخة منفوحة على مختلف أنواع التأويلات والتفسيرات، وكل تفسير إن هو إلا اجتهاد يسلك طريق الاحتمال والإمكان ـ كما يقول ابن فارس ـ الذي وقف موقف المحتار من هذه الكلمة أيضًا (2).
(1) الزمخشري: الفائق في غريب الحديث، 3/ 250، تحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم. نشرة عيسى البابي الحلبي، القاهرة 1977م.
(2) ابن فارس: الصاحبي 58، تحقيق السيد صقر، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة 1977م.
كلام الزمخشري لا يريد به الكلمة المفردة من حيث هي، وإنما يريد بها استعمال الكلمة في سياق معيَّن وهو ما أُثِرَ عن العرب من قول عمر ــ رضي الله عنه ـــ: " كَذَبَ عليكم الحجُّ، كَذَبَ عليكم العمرةُ، كَذَبَ عليكم الجهادُ، ثلاثة أسفار كذبن عليكم " يُرْوى برفع الاسم بعدها ونصبه (1)، وقول الأسود بن يعفر:
كَذَبْتُ عليك لا تزال تَقُوْفُني = كما قاف آثارَ الوسيقة قائفُ
هذا الذي وقف علماء اللغة حائرين في تفسير كلمة (كَذَبَ) فيه فقال الزمخشري هذه المقولة، فمنهم من قال: إن الكلام يُعْرَب لفظه، والمعنى على خلاف ذلك، ومنهم من قال: إن (كَذَبَ) هنا زائدة، وغير ذلك.
أما الكذب فأحسب أن له وجهًا واحدًا قبيحًا كالحًا؛ ولذلك لا يتصف به الأشراف والنبلاء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: غريب الحديث للهروي 3/ 247، إصلاح المنطق 292.
ـ[معاوية]ــــــــ[06 - 12 - 2006, 07:04 م]ـ
أخي ابن النحوية شكرا للإفادة التي تفضلت بها عن المرمى لقول الزمخشري رحمه الله
وأما الكذب فهو نوعان كما أظن:
الكذب الذي نهى عنه الله تعالى ورسوله:=، وهو الكذب الذي في الكلام العادي الذي يقلب الحقيقة ويغيرها إلى باطل، وبسببه يؤخذ حق من مظلوم أو يظلم إنسان وما إلى ذلك وإلى آخره ...
وهْوَ قبيح، ولا يتصف به الأشراف والنبلاء وكذا الصعاليك والمسلمون وأظن النصارى واليهود أيضاً يقبحونه، نبلائهم وأشرافهم وأهل الكتاب عامة ومن كل الطبقات.
أيضاً ..
ولأهمية الصدق ولأن ظاهرة الكذب ظاهرة مدويّة في مجتمعاتهم، اخترعوا في الغرب ـ كما قيل ـ جهازاً للكشف عن الكاذبين وأول مادة تجريبية على الجهاز هم الأشراف والنبلاء:)
أما الكذب الأدبي الجمالي يا أخي الكريم فحدث القوم بما يعرفونه، فهو في ديوان العرب وأعذب الشعر أكذبه؛ وصف لائق لأشرافهم ونبلائهم وصعاليكهم، وإنك لترى الشعراء والكتاب يجمّلون آدابهم بالكذب؛ بألفاظ به محلاه ومعاني وأخيلة تتلمسه وتغشاه، وتدور حول الأدب دائرة الكذب أحادية الاتجاه تتقاطع مع دائرات وأشكال جمالية أخر في ربوع الفن ونواحيه وأسفله وأعلاه ..
ويأتينا الفيروزأبادي بصورة أخرى تماثل هذه بحيويتها وتزاحم الأفعال فيها، وهي صورة الإنسان الذي (يصاح به وهو ساكت يُرى أنه نائم) (1). وهذا هو (الإكذاب) ويقال للإنسان الذي هذه حاله (قد أكذب). ومن هنا تكون الكلمة ذات دلالة احتفالية وذات بعد تصوري وتخييلي، فيها من الزخرفة والبريق مثلما فيها من تنوّع الدلالات وتعدّد الأفعال، ولذا صار عندهم نوع من الثياب المزخرفة تسمّى (الكذ ّابة) يلبسها الناس وهي: (ثوب منقوش بألوان الصيغ كأنه مَوْشِيّ) (2).
(1) القاموس المحيط، مادة (كذب).
(2) الزمخشري: أساس البلاغة 539، دار صادر، دار بيروت، بيروت 1965.
ـ[معاوية]ــــــــ[12 - 12 - 2006, 03:59 م]ـ
وبذلك تكون دلالة (الإغراء) من مضامين معنى هذه الكلمة لدى العرب ـ كما يقرر ابن فارس ــ (1). وصار من أسماء النفس وصفاتها الكذوب والكذوبة، لارتباط النفس بالأماني والمطامح. ويأتي الكذب مرادفاً دلالياً للخيال مثلما كان دالاً على التخييل، ومن ذلك جعلهم ما تراه النفس تخييلاً من باب التكذيب النفسي، بمعنى الاستنباط الخيالي فيقولون: (كذبتك عينك: أرتك ما لا حقيقة له، قال الأخطل:
كذبتك عينك أم رأيت بواسط ... غلس الظلام من الرباب خيالا (2))
فالكذب والخيال فعلان نفسيان وشاعريان، تراهما العين من فوق حدود الواقع الماثل والحقيقة الحسيّة.
ومن هنا تكون دلالات هذه الكلمة المشكلة هي في الإغراء والترغيب والبعث والتخييل ـ مثلما هي في أشياء أخرى ـ وهذه جميعها دلالات تشير إليها الاستخدامات العربية القديمة، والتفسيرات اللغوية لعلماء اللغة في عصر التدوين وما بعده، حتى وإن صار في الأمر معنى من معاني الإشكال الذي جعلها (كلمة مشكلة)، ولكن هذا أدخلها في إطار الاحتمال والإمكان، كما يقول ابن فارس، ممّا يؤكد مفهوم إشارية اللغة ويؤكد أن كل كلمة هي حسب قول عبد القاهر الجرجاني ــ مما يجري مجرى العلامات والسمات، ولا معنى للعلامة والسمة حتى يحتمل الشيء ما جُعلت العلامة دليلاً عليه وخلافه) (3).
(1) ابن فارس: الصاحبي59.
(2) الزمخشري: أساس البلاغة 539، (انظر القاموس مادة ـ كذب ـ)
(3) الجرجاني: أسرار البلاغة347، تحقيق هـ. ريتر، مطبعة وزارة المعارف استانبول1954م.