[كتاب ينوب عن كتائب!]
ـ[عبدالعزيز بن حمد العمار]ــــــــ[20 - 02 - 2008, 11:20 م]ـ
هذه رسالة ابن العميد إلى ابن بلكا عند استعصائه على ركن الدولة يقول:
(كتابي وأنا مترجح بين طمع فيك ويأس منك، وإقبال عليك وإعراض عنك؛ فإنك تُدِلُّ بسابق حرمة وتمُتُّ بسالف خدمة أيسرهما يوجب رعاية ويقتضي محافظة وعناية. ثم تشفعهما بحادث غلول وخيانة، وتتبعهما بآنف خلاف ومعصية، وأدنى ذلك يحبط أعمالك، ويمحق كلَّ ما يرعى لك.
لا جرم أني وقفت بين ميل إليك وميل عليك. أقدم رجلا لصدمك، وأؤخر أخرى عن قصدك، وأبسط يدًا لاصطلامك، وأثني ثانية لاستبقائك واستصلاحك، وأتوقف عن امتثال بعض المأمور فيك ضنًّا بالنعمة عندك، ومنافسة في الصنيعة لديك، وتأميلاً لفيئتك وانصرافك، ورجاءً لمراجعتك وانعطافك، فقد يعزب العقل ثم يؤوب، ويغرب اللب ثم يثوب، ويذهب الحزم ثم يعود، ويفسد العزم ثم يصلح، ويضاع الرأيُ ثم يُستدرك، ويسكر المرء ثم يصحو، ويكدر الماء ثم يصفو. وكلُّ ضيقة إلى رخاء، وكل غمرة فإلى انجلاء.
وكما أنك أتيت من إساءتك بما لم تحتسبه أولياؤك، فلا يدع أن تأتيَ من إحسانك بما لم ترتقبْه أعداؤك، وكما استمرت بك الغفلة حتى ركبتَ ما ركبتَ، واخترتَ ما اخترتَ، فلا عجب أن تنتبه انتباهة تبصر فيها قبحَ ما صنعتَ، وسوء ما آثرتَ. وسأقيم على رسمي في الإبقاء والمماطلة ما صلح، وعلى الاستناء والمطاولة ما أمكن؛ طمعًا في أنانيتك، و تحكيمًا لحسن الظن بك، فلستُ أعدَمُ فيما أظاهره من أعذار، وأرادفه من إنذار؛ احتجاجًا عليك واستدراجًا لك.
فإن يشأِ اللهُ يرشدْك، ويأخذْ بك إلى حظك ويسددْك، فإنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جديرٌ.
وزعمتَ أنك في طرف من الطاعة بعد أن كنتَ متوسطَها، وإذا كنتَ كذلك فقد عرفت حاليَها، وحلبتَ شطريها، فنشدتُكَ اللهَ لمَّا صدقتَ عما أسألك:
كيف وجدتَ ما زلتَ عنه؟ وكيف تجد ما صرتَ إليه؟ ألم تكن من الأول في ظل ظليل، ونسيم عليل، وريح بليل، وهواء غذي، وماء روي، ومهاد وطي، وكن كنين، ومكان مكين، وحصن حصين يقيك المتالفَ، ويؤمنك المخاوفَ، ويكنفك من نوائبِ الزمان، ويحفظك من طوارقِ الحدَثان؛ عززتَ به بعد الذلة، وكثرتَ بعد القلة، وارتفعتَ بعد الضعَةِ، وأيسرتَ بعد العُسرةِ، وأثريتَ بعد المتربة، واتسعتَ بعد الضيقة، وطفرتَ بالولايات، وخفقتْ فوقك الراياتُ، ووطئ عَقِبَك الرجالُ، وتعلقتْ بك الآمالُ. وصرتَ تكاثر ويكاثر بك، وتشير ويشار إليك، ويُذكر على المنابر اسمُك، وفي المحاضر ذكرك.
ففيم الآن أنت من الأمر؟ وما العوض عما عدوتَ والخلف مما وصفتَ؟
وما استفدتَ حين أخرجتَ من الطاعة نفسَك، ونفضتَ منها كفَّك، وغمستَ في خلافها يدَك؟ وما الذي أظلك بعد انحسار ظلها عنك؟ أظلٌّ ذو ثلاثِ شعَبٍ لا ظليلَ ولا يغني من اللهب؟!
قل: نعم، كذلك. فهو - والله - أكثفُ ظلالِك في العاجلة، و أروحها في الآجلة؛ إن أقمتَ على المحايدة و العُنُود، ووقفتَ على المشاقة والجحود.
تأملْ حالك وقد بلغتَ هذا الفصل من كتابي فستنكرها، والمسْ جسدَك وانظر هل يحس؟! و اجسُسْ عرقَك هل ينبضُ؟! و فتشْ ما حنا عليك هل تجد في عرضها قلبك؟ وهل حَلِيَ بصدرك أن تظفر بفوت سريح أو موت مريح؟ ثم قسْ غائبَ أمرِك بشاهده، وآخر شأنك بأوله).