أثناء تكوين القارئ للمعنى ..
و تستوعب إجراءات تكوين المعنى جميع أشكال التفاعل بين القارئ والنص في أي قراءة حقيقية، حيث تحدث تلك الفعاليات أثناء تكوين المعنى بواسطة إجراءات المعنى التي تمثل المرحلة الأولى من التجربة، و بذلك تترتب مراحل القراءة التالية على تلك المرحلة و توظف إجراءاتها بطرق متنوعة لتحقيق أنواع متعددة من التفاعل مع النص. فقد تكون الدلالات التي يحدثها النص ببنيته التركيبية لغوية، او تكون ذات طابع نفسي، او رمزي، او فلسفي. كما ان وجهة الناقد الجمالية تحكم نوع المنهج الذي سيختاره و يختبر من خلاله ردود فعله تجاه بنية النص.
وهنا تأتي المرحلة الثانية من إجراءات القراءة في منهج القارئ المخبر حيث يتضمن المعنى بوصفه كل ما يحدثه القارئ في تفاعله مع النص أخطاء التجربة، وذلك لأن مراجعة القارئ لهذه الأخطاء و تصحيحه لها عبر اجراءات أخرى هو جزء من التجربة (نقد استجابة القاريء) * وبذلك تكون المرحلة الثانية من القراءة هي مراجعة أخطاء التجربة لإعادة بناء تماسكها، حيث يدل تماسك التجربة على صحة خطوات القراءة، ويعتمد القارئ في هذه المرحلة على خبرته اللغوية والادبية التي تشكل منها منظوراته الخاصة للنص.
من جهة أخرى يستوعب منهج القارئ المخبر القيمة الجمالية للنص، فلايمكن إغفال القيمة الجمالية إذا كانت جزءاً من اهتمامات القارئ التي تدخل في خطوات القراءة الفعلية، و يتمثل ذلك في بحث القارئ عن وقع جمالي للنص وفق إجراءات خاصة، حيث لاتتعارض تلك الإجراءات مهما كانت مع منهج القارئ المخبر مادامت تدخل في نطاق التجربة كأثر للنص، و ذلك باعتبار أن كل ما يحدث في أي قراءة فعلية هو جزء من تجربة القارئ للمعنى.
و فعاليات القراءة الأساسية والقضايا التي تتمحور حولها تعتمد في الأساس على اختيارات القراء و خبراتهم الذاتية السابقة على لحظة القراءة، و التي تكونت من خلال علاقة معينة بالبيئة الثقافية المحيطة و شكلت آفاقاً للتواصل مع النص، في حين أن إجراءات القراءة أو استراتيجياتها هي توظيف للنص من خلال علاقة تفاعليه معنية مع بنيته التركيبية
و لابد من مراعاة تعدد القراء واختلافات القراءة الناشئة عن العوامل الذاتية لدى كل قارئ. فكل شارح ينطلق من اهتماماته الخاصة وخبراته الشخصية في تكوين أفق توقعاته للنص، و ذلك حين يختار القضايا والمنظورات التي يتعامل من خلالها مع موضوعه و يعد مفهوم الأفق عند ياوس مفيداً في هذا المجال. و ينطلق القاريء من البنية اللغوية للنص، و من خلال هذه البنية يتحكم النص في استراتيجيات القراءة، عبر استراتيجيات نصّية يشكل النص بواسطتها بنيته الفنية في تركيبه اللغوي الخاص. وفي هذا المجال يمكن أن نستفيد من نظريات القراءة التي تتناول دور النص في القراءة وتضع منطلقات نظرية لوصفه
وتساهم المفردات كوحدة معنوية أساسية في تجربة الشراح لسقط الزند من خلال الاتجاه الزمني لتجربة القراءة. و وفق الاتجاه الزمني للتجربة تتجه القراءة فعلياً باتجاه مكونات النص اللغوية من اليمين إلى اليسار * (نقد استجابة القاريء)، و بذلك يتضح أثر الاتجاه الزمني للمعنى حيث تساهم كل مفردة في تكوين القارئ للمعنى من خلال تدعيم اتجاه التجربة أو تعديله أو تغيير مساره باتجاه آخر جديد.
و لا يسمح لي المجال هنا بضرب أمثلة على قراءات تعتمد مناهج النقد الحديثة لضيق الوقت فقط، لكنني سأقتص من ذاكرة حاسوبي بعض الأمثلة الناجزة من تطبيقات النقد العربي القديم. و مثالاً على ذلك نورد شرح الخوارزمي لبيت أبي العلاء (شروح سقط الزند:1/ 184):-
إذا شربت رأيت الماء فيها أزيرق ليس يستره الجران
حيث تدعم مفردة (أزيرق) عبر صياغتها اللغوية الشرح الجمالي للبيت كما يشرحه الخوارزمي فيقول: ((و لقد طبق المفصل بالتصغير، لأنه لما جعل رقابهن دقيقة كالخيزران حسن أن يجعل ما يمر فيها من الماء مويهاً)) فتصغير صفة الماء (أزيرق) يقوّي تشبيه رقاب الإبل بالخيزران بجامع الدقة.
و هناك مثال آخر من الكتاب نفسه أكثر عمقاً في وصف الاتجاه الزمني للتجربة، و هو شرح البطليوسي للبيت 1/ 232:
إن يكن عيدهم بغير هلال فالهلال المضيء وجه الأمير
¥