والمدرسة الحنبلية من أشد المدارس -أو لعلها أشدها- حرباً عل التأويل، وخصوصاً في جانب العقيدة، إلى حد جعل ابن تيمية وتلاميذه ينكرون وجود المجاز في القرآن والسنة واللغة عموماً، ويرون فتح ذلك الباب ذريعة إلى الضلال والفساد، ودخول الزنادقة والباطنية وكل عدو للإسلام من خلاله.
ومع هذا اضطروا أن يطرقوا باب التأويل في بعض النصوص.
وقد حكى الإمام الغزالي في فيصل التفرقة: أن الإمام أحمد بن حنبل، وهو أبعد الناس عن التأويل، لجأ إليه في بعض الأحاديث، كما نقل إليه ذلك بعض الحنابلة المعاصرين له في بغداد.
وهذه الأحاديث هي:
"الحجر الأسود يمين الله في الأرض"،18 "القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن"،19 إني لأجد نَفَس الرحمن من جهة اليمين."20
وقد علّق شيخ الإسلام ابن تيمية على هذه المقولة، فرمى هذه الرواية بالبطلان، وقال: إنها كذب على الإمام أحمد، ولا يُعرف ذلك عنه، وناقل ذلك للغزالي مجهول، لا يُعرف علمه بما قال، ولا صدقه فيما قال.
ومع هذا سُئل ابن تيمية عن الحديثين الأول والثالث فقال:
"أما الحديث الأول، فقد روى عن النبي ? بإسناد لا يثبت. والمشهور إنما هو عن ابن عباس، قال: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمَن صافحه وقبَّله، فكأنما صافح الله وقبَّل يمينه.
"ومن تدبَّر اللفظ المنقول تبيَّن له أنه لا إشكال فيه إلا على من لم يتدبره. فإنه قال: "يمين الله في الأرض" فقيده بقوله: "في الأرض"، ولم يُطلق فيقول: "يمين الله". وحكم اللفظ المقيد يخالف حكم اللفظ المطلق.
ثم قال: "فمَن صافحه وقبَّله فكأنما صافح الله وقبَّل يمينه". ومعلوم أن المشبَّه غير المشبَّه به. وهذا صريح في أن المصافح لم يصافح يمين الله أصلاً؛ ولكن شُبِّه بمن يصافح الله، فأول الحديث وآخره يبَيِّن أن الله تعالى كما جعل للناس بيتاً يطوفون به، جعل لهم ما يستلمونه؛ ليكون ذلك بمنزلة تقبيل يد العظماء، فإن ذلك تقريب للمقبِّل، وتكريم له، كما جرت العادة.
وأما الحديث الثاني: "إني أجد نَفَس الرحمن من جهة اليمن"، فقوله: "من اليمن" يبيِّن مقصود الحديث، فإنه ليس لليمن اختصاص بصفات الله تعالى، حتى يُظن ذلك، ولكن منها جاء الذين "يحبهم ويحبونه" الذين قال فيهم: ?مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ? (المائدة:54).
وقد روى أنه لما نزلت هذه الآية سُئل عن هؤلاء، فذكر أنهم قوم أبي موسى الأشعري. وجاءت الأحاديث الصحيحة: "أتاكم أهل اليمن، أرق قولباً، وألين أفئدة. الإيمان يمان، والحكمة يمانية"، وهؤلاء هم الذين قاتلوا أهل الردَّة، وفتحوا الأمصار، فبهم نفّس الرحمن عن المؤمنين الكربات ... ." 21
ومن تأمل كلام شيخ الإسلام، وكان منصفاً، وجد في توجيهه للحديثين قدراً من التأويل، وضرباً من التجوز، وما ذكره من لفظة "في الأرض" في الحديث الأول، أو لفظة "من اليمن" في الحديث الثاني، هو ما يسميه علماء البلاغة "القرينة" في المجاز، التي تدل على أن اللفظ أريد به غير ما وُضع له في الأصل.
ونحو ذلك حديثه عن معية الله تعالى لعباده، العامة والخاصة، ون قُرب الرب من عبده، وقُرب العبد من ربه، فيه شيء مما ذكرنا من التأويل،22 وإن لم يسمه كذلك. ولكنه تأويل قريب وصحيح ومقبول بلا ريب، وهو ما يحتاج إليه كل عالم في بعض الأحيان. ولكن المحظور هو التوسع، الذي سقط فيه من سقط من الأفراد والفرق.
وقد نقل العلامة جمال الدين القاسمي في تفسيره محاسن التأويل عن ابن تيمية في بعض فتاواه قوله: "نحن نقول بالمجاز الذي قام دليله، وبالتأويل الجاري على نهج السبيل، ولم يوجد في شيء من كلامنا وكلام أحد منا، أنّأ لا نقول بالمجاز والتأويل. والله عند كل لسان. ولكن ننكر من ذلك ما خالف الحق والصواب، وما فُتِح به الباب إلى هدم السُّنة والكتاب، واللحاق بمحرِّفة أهل الكتاب".23
وهذا هو اللائق بإمام مثل ابن تيمية الذي جمع بين النقل والعقل، ووسع علمه تراث السَلف ومعارف الخَلف، وتهيأ له من أدوات المعرفة ما لم يتهيأ لغيره إلا مَنْ مَنَّ الله عليه بفضله، وقليل ما هم.
على أن هناك من أعلام الحنابلة أنفسهم مَن خرج عن خط الحنابلة المتشددين، وخاض في لجج التأويل، وأنكر على من عزا إلى الإمام أحمد أنه يرفض التأويل بإطلاق.
¥