ومن قرآن تفسيراً مثل (الكشاف) للزمخشري، وحده على علمه وفضله -الذي اعترف به الجميع- يتكلف تكلفاً لا يليق بعلاّمة مثله، لحمل الآيات على مذهبه كما تراه جلياً في قوله تعالى: ?إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ? وقد كررت مرتين في سورة النساء (الآية 48 والآية 116)، فقد فرق الله تعالى بين الشرك وما دونه من الذنوب، ولكنه -أي الزمخشري- سوَّى بينهما في أنهما لا يغفران إلا بالتوبة!
ومثل ذلك موقفه من قوله تعالى: ?مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ? (البقرة: 255)؛ وقوله: ?وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى? (الأنبياء: 28)، وغير ذلك من الآيات المثبتة للشفاعة بشرطها، وهي أن تكون بإذن الله تعالى لأهل التوحيد، ولكن الزمخشري -مثل كل المعتزلة- يغلبون العدل على الرحمة، والوعيد على الوعد، والعقل على النقل، ولو أنصفوا وتأملوا حق التأمل لعلموا أن العقل المجرد عن الهوى يقضي بإثبات الشفاعة، لأنه الأليق بكمال الله تعالى، وسابغ فضله، وواسع رحمته، وعظيم إحسانه.
ونحو ذلك موقفه من قوله تعالى عن يوم القيامة: ?وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ? (القيامة: 22 - 23).
وهي صريحة في موضوعها، ولا سيما إذا أضيف إليها صحاح الأحاديث.
وموقفه من مثل قوله تعالى: ?وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ? (المائدة: 41)، وقوله: ?فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ? (الأنعام: 125)، وتمثله رحمة الله في تفسير هذه وتلك وما كان في معناهما لتوافق مذهبه في أن المعاصي واقعة بغير إرادة الله تعالى حتى قال العلامة ابن المنير في (انتصافه): كم يتلجلج هذا الفاضل والحق أبلج.
وقال معقِّباً على قول الزمخشري في تفسير قوله تعالى: ?مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ? (الأنعام:111) أي مشيئة إكراه واضطرار: (بل المراد: إلا أن يشاء منهم اختيار الإيمان، فإنّه لو شاء منهم اختيارهم للإيمان لاختاروه وآمنوا حتماً ما شاء الله كان. والزمخشري بنى على القاعدة الفاسدة في اعتقاده: أنَّ الله تعالى شاء منهم الإيمان اختياراً، فلم يؤمنوا بل يقول هو وطائفته: إن أكثر ما شاء الله لم يقع ... فإذا صدمتهم مثل هذه الآي بالرد تحيّلوا في المدافعة بحمل المشيئة المنفية على مشيئة القسر والاضطرار، وإنما يتم لهم ذلك لو كان القرآن يتبع الآراء، أما وهو القدوة والمتبوع، فما خالفه حينئذٍ وتزحزح عنه فإلى النار، وماذا بعد الحق إلا الضلال.38
- المدرسة الأشعرية والتأويل:
والأشاعرة والماتريدية الذين كانوا يعبّرون عن أهل السنة طوال القرون الماضية، لم يسلموا من التأويل الذي أنكره عليهم غيرهم.
وأبرز أشعري خاض هذا الميدان هو الإمام أبو حامد الغزالي، الذي بسط القول في هذا المجال في كتابه فيصل التفرقة بين الإيمان والزندقة، ووضع للتأويل قانوناً واسعاً فضفاضاً يسع معظم المؤوِّلين للنصوص، وإن أسرفوا وتكلّفوا.
وعذر الإمام أبي حامد في هذا التوسع الزائد عن الحد الوسط: أنه كان يتحدث عن الحد الفاصل بين الإيمان والكفر، أو بين الإسلام والزندقة، فهو يبحث فيما يخرج المسلم من دائرة الإيمان إلى دائرة الكفر، والحكم بكفر المسلم أو بردته أمر خطير، تترتب عليه أحكام جمة كبيرة، وحسبك منها: جلُّ دمه وماله عند جمهور الفقهاء، والتفرقة بينه وبين زوجه وولده. وبالجملة: الحكم عليه بالإعدام من المجتمع المسلم، أدبياً ومادياً.
فإذا كان ثمة مندوحة عن الحكم بـ (التكفير) فلا مفر من التثبث بها، وإن كانت واهية. فقد قواها الاحتياط لحقن دم المسلم، وإبقائه على أصل الإسلام، تحسيناً للظن به، وحملاً لحاله على الصلاح.
¥