فليس كل ما ذكره الغزالي من أقسام الوجود: الحسي والخيالي، والشبهي والعقلي، التي يتحملها النص، وتدخل في التأويل، تأويلاً صحيحاً راجحاً في رأيه، بل يعتبره تأويلاً يمسك من قال به على أصل الإيمان، ولا يخرج به إلى الكفر المخرج من الملة، وإن كان يراه بدعة وضلالاً، كما هو رأيه في المعتزلة والخوارج والشيعة وغيرهم. فينبغي التنبه لهذه الدقيقة، فبعض الذين يكتبون عن الغزالي ورأيه في التأويل، ومراتب الوجود التي تحدث عنها، يوهمون أنه يصحح كل هذه التأويلات، وإن كانت بعيدة، وليس الأمر كذلك، إنما يراها تعفي صاحبها فقط من الحكم بكفره وردته.
* تأويلات الطوائف المنحرفة والمارقة في عصرنا:
وفي عصرنا وجدنا الفئات المارقة والمنحرفة -على تفاوت بينها- تلوذ بمخبأ الإسراف في (التأويل) تحتمي به، وتستند إليه، وتعتمد عليه، عوضاً عن رفضها صراحة للنصوص الثابتة المحكمة، فترفضها الأمة، وتفصلها عن جسمها الحي، فتموت حتماً.
- تأويلات القاديانية:
رأينا ذلك في طائفة (القاديانية) الذين جحدوا ما عُلِم من دين الإسلام بالضرورة، وهو ختم النبوة بمحمد ?، وهو ما نطق به القرآن، واستفاضت به السنَّة. وأجمعت عليه كل طوائف الأمة، فقالوا في قوله تعالى: ?وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ? (الأحزاب:40)، أي زينة النبيين! كما أن (الخاتم) زينة الإصبع!
ولو كانوا طلاباً للحقيقة لرجعوا إلى القراءة الأخرى الثابتة: ?وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ? بكسر التاء، وكذلك إلى الأحاديث الصحيحة الغزيرة الصريحة مثل "لا نبي بعدي".
ومثل ذلك تأويلهم للآيات التي تناقض مذهبهم الذي يوجب طاعة أولي الأمر من الكفار المستعمرين (وقد كانوا هم الإنجليز الحاكمين للهند في عصرهم) فقالوا في قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ? (النساء: 59)، فالآية صريحة في أن أولي الأمر الواجبة طاعتهم هنا -بعد طاعة الله ورسوله- يجب أن يكونوا من المؤمنين المخاطبين بقوله: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا?، أما الكفار فليسوا منهم، ولا سيما إذا كانوا غزاة مستعمرين. ولكن هؤلاء يؤوِّلون كلمة "منكم" التي تفيد البضعية بدلالة "من" ليجعلوا معناها "فيكم"! وهذا هو التبديل لكلمات الله تعالى.
وكذلك أوَّلوا ما استفاض في القرآن من آيات الأنبياء، من الخوارق والمعجزات التي أيَّد الله بها رسله مثل عصا موسى، وانقلابها حيّة تسعى، وضربه بها البحر حتى النفق، فكان كل فِرق كالطود العظيم، وضربه بها الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، إلى آخر الآيات البيِّنات التسع. ومثل إحياء عيسى الموتى، وإبرائه الأكمة والأبرص بإذن الله، ونفخه في الطين المصور فيكون طيراً بإذن الله، إلى غير ذلك من معجزات الأنبياء.
وكذلك إلغاؤهم فريضة الجهاد، ليتم تعبيد الأمة للكفار المستعمرين.
- تأويلات البهائية:
وأسوأ من هؤلاء: طائفة "البهائية" الذين جاؤوا بدين جديد، له نبوَّة جديدة، وكتاب جديد، وشريعة جديدة، غيَّروا فيه كل شيء، حتى السنة والشهور والأيام، وأبطلوا فيه الفرائض، واستباحوا المحرّمات. ومع هذا أبَوْا إلا أن يتمسحوا بالقرآن العزيز، ويستدلوا على باطلهم بحقه، ويحرِّفوه عن مواضعه باسم "التأويل" ليفتروا على الله الكذب: ?قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ? (يونس:69).
فقد ذكروا في قوله تعالى: ?عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ. عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ. الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ.كَلَّا سَيَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ? (النبأ: 1 - 5): أن النبأ العظيم هو ظهور "البهاء" ودعوته التي سيختلف فيها الناس! 39
وهل كان مشركو قريش والعرب الذين نزل القرآن يخاطبهم مختلفين في أمر البهاء أم في أمر البعث والجزاء، كما دلَّت على ذلك الآيات التالية من السورة؟
¥