ويكون شأنه في ذلك شأن كل المباحات التي تخضع لتصرفات ولي الأمر، وتقبل التأثر بظروف كل زمان ومكان.
وهل لنا أن نذلل بهذا عقبة من العقبات التي تقوم في سبيل الأخذ بالتشريع الإسلامي؟ مع أننا في هذا الحالة لا نكون قد أبطلنا نصاً، ولا ألفينا حداً وإنما وسَّعنا الأمر توسيعاً يليق بما امتازت به الشريعة الإسلامية من المرونة والصلاحية لكل زمان ومكان، وبما عُرِفَ عنها من إيثار التيسير على التعسير، والتخفيف على التشديد. أ. ه. "44
وهذا الاجتهاد المزعوم -وفق هذا التأويل الرديء- مردود على صاحبه لأنه اجتهاد فيما لا مجال للاجتهاد فيه، لأنه أمر قطعي ثابت بالكتاب والسنَّة وإجماع الأمة، ومعلوم من الدين بالضرورة.
والأمر في هذا المقام لا يمكن أن يفهم منه الإباحة بحال، إذ الأصل في الأمر الوجوب أو -على الأقل- الاستحباب، ولا يخرج عنهما إلا بقرينة، ولا قرينة هنا.
والأمر في الآية التي استدل بها على أنه للإباحة -وهي: ?يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ? (الأعراف:31) ليس كما توَّهم، فقد بيَّن الإمام الشاطبي في موافقاته: أن الأكل والشرب وأخذ الزينة هنا واجب بالكل، مباح بالجزء، فإن بني آدم لا يجوز لهم أن يمتنعوا عن الطعام والشراب والتزين، وخصوصاً الحد الأدنى منه هو ستر العورة- بدعوى التنسك أو التزهد، أو مقاومة الجسد أو ترقية الروح أو نحو ذلك، وإن أبيح لهم ذلك في وقت معيَّن، أو لسبب معيَّن، وهذا معنى أنه مباح بالجزء. وينبغي مراجعة تحقيق الشاطبي هنا فهو في غاية النافسة.
ولو نظرنا إلى القرائن المحيطة بالنص، لوجدناها كلها تنادي بالوجوب، بل تؤكده.
وكيف يكون الأمر هنا للإباحة، وهو يقول: ?جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ? (المائدة: 38)، وكيف رفض النبي ? أي شفاعة في حدود الله من أحب الناس إليه، وهو أسامة بن زيد، وقال له منكراً: "أتشفع في حدٍ من حدود الله يا أسامة"؟ وكيف قال قولته المعروفة: "وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها"!
وكي يكون الأمر في جَلْد الزانية والزاني للإباحة، وهو يقول عقبه: ?وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ? (النور:2)، فَلِمَ كل هذا التحريض والإلهاب؟
إن هذا التأويل -لو صحَّ- لجاز أن يقول قائل في آيات أُخر، أو أمر آخر، القول نفسه، ويؤوِّلها التأويل نفسه، مثل قوله تعالى: ?حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ? (البقرة:238)، ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ? (البقرة: 267)، ?وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ? (البقرة:110، المزمل: 20).
?وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ? (الصافات: ة9) أي وأولئك لهم عذاب دائم، لتقصيرهم عن البحث في سر عظمة هذا الكون، والوصول بذلك إلى عظمة خالقه، وبديع قدرته.
ثم بين من وفقهم الله وأنعم عليهم ممن ظفروا بالمعرفة فقال:
?إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ? (الصافات:10)، أي إلا من لاحت له بارقة من ذلك الجمال، وعنّت له سانحة منه، فتخطف بصيرته كالشهاب الثاقب، فحنّ إلى مثلها، وصبت نفسه إلى أختها، وهام بذلك الملكوت العظيم باحثاً عن سر عظمته، ومعرفة كنه جماله، وهم من اصطفاهم الله من عباده، وآتاهم الحكمة من لدنه، وأيدهم بروح من عنده، وهم أنبياؤه وأولياءه الذين أنعم عليهم من الصديقين والشهداء والصالحين.
¥