في حين أن عددا من المفسرين قد أفرط في ذلك إلى حد أفقد تفسيره كثيرا من قيمته العلمية، مثل السيوطي؛ الذي امتلأ تفسيره بها، بل تجاوز الحد في كثير من الأحيان، فروى منها ما لا يحل ذكره إلا على وجه التنبيه والتحذير، والمشكلة أنه رواها من غير تعقيب!
خامسا: عرض أدلة الفريقين من المبيحين والمانعين:
بعد العرض الأوّليّ للموضوع بعامة؛ وجب أن ننظر في أدلة كل من الفريقين ثم نرجح بينها ونبين ما لكل من الفريقين مما عليه.
ونبدأ بأدلة من أباح الأخذ من القسم الثالث من أنواع الإسرائيليات - وهو القسم المسكوت عنه؛ فلم يأت في القرآن ما يصدقه أو ما يكذبه -.
فنقول:
استدل هؤلاء العلماء ببعض الأدلة على ما ذهبوا إليه، وهذه الأدلة بالجملة هي:
1 - قول الله تعالى: (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب، ويقولون: سبعة وثامنهم كلبهم، قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل) الكهف.
حيث قد استدل الحافظ ابن كثير بهذه الآية - كما في مقدمة تفسيره على جواز رواية أقوال أهل الكتاب - إذ قال:
"ولكن نَقْلُ الخلاف عنهم في ذلك جائز، كما قال تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 22]
2 - الدليل الثاني:
ما رواه البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
(بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي .. ) الحديث.
ووجه الدلالة منه: قوله صلى الله عليه وسلم: "وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"؛ إذ إنه رفع الحرج والإثم عن الرواية عن بني إسرائيل، والمقصود ما هو مسكوت عنه مما لم يأت ما يصدقه أو ما يكذبه في كتابنا الكريم.
3 - الدليل الثالث:
فعل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وخصوصا حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، إذ روي عنه سؤال كعب الأحبار في مسائل عديدة، وكذلك سؤال أبي الجلد، وهما كتابيان أسلما، في عهد أبي بكر وعمر.
ولو كان منهيا عنه لما أقدم مثل هذا الحبر العظيم على سؤال أهل الكتاب عما عندهم في كتبهم.
هذه الأدلة هي أدلة المبيحين كما بينت، وقبل أن ننتقل إلى أدلة المانعين، وجب مناقشة هذه الألة لتحقيق مدى صلاحيتها للاستدلال على ما وجهت إليه.
مناقشةً للأدلة المذكورة مما أرفقه هؤلاء - وهم جمهور العلماء - أقول:
**أما الدليل الأول، وهو قوله تعالى: (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم) الآية. إذ استدل به ابن كثير كما في مقدمة تفسيره، وقد نقلناه بنصه، فلا يصلح للاستدلال على التحقيق، والسبب:
أنه وإن كان الله تبارك وتعالى قد عدد أقوالهم ونقل الخلاف بينهم فيما ذكروه، إلا أنه في نهاية الآية نهى عن استفتائهم وسؤالهم، فقال: (فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا، ولا تستفت فيهم منهم أحدا).
وهذه الآية ظاهرة الدلالة في المسألة، إذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يجادل في شأنهم إلا بما أوحاه الله تعالى إليه، ولا يسأل من اليهود عن قصة أهل الكهف أحدا.
وحاصله: أن الآية دليل على ابن كثير والمبيحين لا دليل لهم.
أما الدليل الثاني، وهو حديث البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( .. وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)، فيرد على الاستدلال به ما يأتي:
أن هذا اللفظ للحديث يحتمل أكثر من معنى:
الأول: حدثوا عنهم وارووا عنهم من أخبار كتبهم ولا حرج عليكم في ذلك.
وهذا المعنى هو الذي حمله عليه أصحاب القول الأول.
لكن لا بد من الإشارة إلى أن حمل الحديث على هذا المعنى يقتضي تأويله عن ظاهره، لأن ظاهره قاض ٍ بإباحة الرواية عن بني إسرائيل مطلقا، وهو غير مراد قطعا، لأن من الإسرائيليات ما هو مخالف لصريح القرآن والاعتقاد؛ فتعين حمل المباح روايته لى نوع معين من الإسرائيليات وهي المسكوت عنه.
¥