ـ[محمد براء]ــــــــ[30 Sep 2010, 09:29 م]ـ
بارك الله فيك شيخنا أبا فهر، فالحديث الذي ذكرتَه أزال الإشكال وفتح لي باباً من الفهم ..
وعليه:
يكون نهي لقمان ابنَه عن المشي في الأرض مرحاً وتصعيرِ خدِّه للناس - مع كونه عبداً -، أبلغَ مما لو لم يكن عبداً، لأنَّ الداعي إلى الكبر في نفس العبدِ المسترق ضعيف، كما أن الداعي إلى الزنا في نفس الشيخ ضعيف، والداعي إلى الكذب في نفس الملِك ضعيف، فإن وقع فيه دلَّ ذلك على نفسٍ خبيثةٍ وطويَّةٍ فاسدة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ:
1 - شَيْخٌ زَانٍ.
2 - وَمَلِكٌ كَذَّابٌ.
3 - وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ "
- وهذا الحديث في صحيح مسلم ولم يصححه الألباني فحسب -
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى في إكمال المعلم (1/ 383 - 384): " خص هؤلاء الثلاثة بأليم العذاب وعقوبة الإبعاد لالتزام كُلِّ واحدٍ منهم المعصيةَ التى ذكر على بُعدِهَا منه، وعدم ضرورته إليها، وضعف دواعيها عنده، وإن كان لا يُعذرُ أحدٌ بذنب، ولا فى معصيته اللهَ تعالى، لكن لما لم تدعُهم إلى هذه المعاصى ضرائرُ مزعجة، ولا دواعٍ معتادة، ولا حملتهم عليها أسباب لازمةٌ، أشبه إقدامُهم عليها المعاندةَ، والاستخفاف بحق المعبود، محضًا، وقصدِ معصيته لا لغيرِ معصيتِهِ، فإن الشيخَ مع كمال عقله، وإعذار الله له فى عمره، وكثرة معرفته بطول ما مَرَّ عليه من زمنه، وضعف أسباب الجماع والشهوة للنساء، واختلال دواعيه لذلك، وبَرد مِزاحه، وإخلاق جديده، وعنده من ذلك ما يُريحه من دواعي الحلال فى هذا الباب من ذاَته، ويخلى سره منه بطبيعته، فكيف بالزنا الحرام؟! إذ دواعى ذلك الكبرى: الشبابُ، وحرارةُ الغريزة، وقلة المعرفةِ، وغلبة الشهوة بضعف العقل، وصِغَرِ السِنّ.
وكذلك الإمام لا يخشى من أحد من رعيته، ولا يحتاج إلى مداهنته ومصانعته، إذ إنما يُداهن الإنسانُ ويصانعُ بالكذب وشبهِهِ من يحذرُه ويخشى معاقبته، أو أذاه ومعاتبته، أو يطلب عنده بذلك منزلةَّ أَو منفعةً، فهو غنى عن الكذب جملة.
وكذلك العائلُ الفقيرُ، قد عَدِم بعدمه المال ولعاعة الدنيا سبَبَ الفخر، والخُيلاء، والاستكبار على القُرناء، إذ إنما يكون ذلك بأسباب الدنيا والظهور فيها وحاجات أهلها إليه، فإذا لم يكن عنده أسبابها فلماذا يستكبر ويستحقر غيره؟! فلم يبق إلا أنَ فى استكبار هذا، وكذب الثانى، وزنا الثالث، ضرباً من الاستخفاف بحق الله تعالى، ومعاندة نواهيه، وأوامره، وقلة الخوفِ من وعيدِهِ إذ لم يبق ثَمَّ حاملٌ لهم على هذا سواه، مع سبق القدَرِ لهم بالشقاء ".
قال مقيده عفا الله عنه: وكذلك العبد المتكبر المختال في مشيته المصعر خده للناس، فإن داعيه لذلك شبه معدوم، فلم يبق أنه إذا فعل ذلك يكون فاعلاً له معاندة لأمر الله تعالى واستخفافاً بحقه لا لداعي في نفسه، وبذلك يزول الإشكال الذي ذكرتُه، لأن إشكالي كان في تصور عبد قد دعاه داع من نفسه إلى هذا الفعل، لا أن يكون قد فعله لمجرد عصيان الله تعال ومحادته، فهذا تصوره ممكن بخلاف الأول، إلا أن يكون في نفس العبد أو الشيخ أو الملك من الخبث وخلاف الفطرة ما يدعوه إلى ذلك، وهذا ما بينه ابن تيمية في مجموع الفتاوى (18/ 14) فقال: " فَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ اشْتَرَكُوا فِي هَذَا الْوَعِيدِ وَاشْتَرَكُوا فِي فِعْلِ هَذِهِ الذُّنُوبِ مَعَ ضَعْفِ دَوَاعِيهِمْ؛ فَإِنَّ دَاعِيَةَ الزِّنَا فِي الشَّيْخِ ضَعِيفَةٌ وَكَذَلِكَ دَاعِيَةُ الْكَذِبِ فِي الْمَلِكِ ضَعِيفَةٌ؛ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ وَكَذَلِكَ دَاعِيَةُ الْكِبْرِ فِي الْفَقِيرِ فَإِذَا أَتَوْا بِهَذِهِ الذُّنُوبِ مَعَ ضَعْفِ الدَّاعِي دَلَّ عَلَى أَنَّ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ الشَّرِّ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَ بِهِ مَنْ الْوَعِيدِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُمْ ".
وأحسب أن من هذا الباب نفسه حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟
¥